[ ص: 18 ] هذه الجملة معطوفة على جملة أفغير الله أبتغي حكما لأن تلك الجملة مقول قول مقدر ؛ إذ التقدير قل أفغير الله أبتغي حكما ، باعتبار ما في تلك الجملة من قوله : ( وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) فلما وصف الكتاب بأنه منزل من الله ، ووصف بوضوح الدلالة بقوله : ( وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) ثم بشهادة علماء أهل الكتاب بأنه من عند الله بقوله : والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك أعلم رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأن هذا الكتاب تام الدلالة ، ناهض الحجة ، على كل فريق من مؤمن وكافر ، صادق وعده ووعيده ، عادل أمره ونهيه ، ويجوز أن تكون معطوفة على جملة ( جعلنا لكل نبيء عدوا ) وما بينهما اعتراض ، كما سنبينه .
والمراد بالتمام معنى مجازي إما بمعنى بلوغ الشيء إلى أحسن ما يبلغه مما يراد منه ، فإن التمام حقيقته كون الشيء وافرا أجزاءه ، والنقصان كونه فاقدا بعض أجزائه ، فيستعار لوفرة الصفات التي تراد من نوعه ؛ وإما بمعنى التحقق فقد يطلق التمام على حصول المنتظر وتحققه ، يقال : تم ما أخبر به فلان ، ويقال : أتم وعده ؛ أي : حققه ، ومنه قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن أي : عمل بهن دون تقصير ولا ترخص ، وقوله تعالى : وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا أي : ظهر وعده لهم بقوله : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض الآية ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : والله متم نوره أي : محقق دينه ومثبته ؛ لأنه جعل الإتمام في مقابلة الإطفاء المستعمل في الإزالة مجازا أيضا .
وقوله : كلمات ربك قرأه الجمهور بصيغة الجمع وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف : ( كلمة ) بالإفراد فقيل : المراد بالكلمات أو الكلمة القرآن ، وهو قول جمهور المفسرين [ ص: 19 ] ونقل عن قتادة ، وهو الأظهر المناسب لجعل الجملة معطوفة على جملة والذين آتيناهم الكتاب فأما على قراءة الإفراد فإطلاق الكلمة على القرآن باعتبار أنه كتاب من عند الله ، فهو من كلامه وقوله ، والكلمة والكلام يترادفان ، ويقول العرب كلمة زهير ، يعنون قصيدته ، وقد أطلق في القرآن ( الكلمات ) على الكتب السماوية في قوله تعالى : ( فآمنوا بالله ورسوله النبيء الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ) أي : كتبه ، وأما على قراءة الكلمات بالجمع فإطلاقها على القرآن باعتبار ما يشتمل عليه من الجمل والآيات ، أو باعتبار أنواع أغراضه من أمر ونهي وتبشير وإنذار ومواعظ وإخبار واحتجاج وإرشاد وغير ذلك . ومعنى تمامها أن كل غرض جاء في القرآن فقد جاء وافيا بما يتطلبه القاصد منه .
واستبعد ابن عطية أن يكون المراد من ( كلمات ربك ) بالجمع أو الإفراد القرآن ، واستظهر أن المراد منها قول الله ؛ أي : نفذ قوله وحكمه ، وقريب منه ما أثر عن أنه قال : كلمات الله وعده . وقيل : كلمات الله أمره ونهيه ووعده ووعيده ، وفسر به في الكشاف ، وهو قريب من كلام ابن عباس ابن عطية ، لكن السياق يشهد بأن تفسير الكلمات بالقرآن أظهر .
وانتصب صدقا وعدلا على الحال عند أبي علي الفارسي ، بتأويل المصدر باسم الفاعل ؛ أي : صادقة وعادلة ، فهو حال من ( كلمات ) وهو المناسب لكون التمام بمعنى التحقق . وجعلهما منصوبين على التمييز ؛ أي : تمييز النسبة ؛ أي : تمت من جهة الصدق والعدل ، فكأنه قال : تم صدقها وعدلها ، وهو المناسب لكون التمام بمعنى بلوغ الشيء أحسن ما يطلب من نوعه ، وقال الطبري ابن عطية : هذا غير صواب ، وقلت : لا وجه لعدم تصويبه .
والصدق : المطابقة للواقع في الإخبار ، وتحقيق الخبر في الوعد والوعيد والنفوذ في الأمر والنهي ، فيشمل الصدق كل ما في كلمات الله من نوع الإخبار عن شئون الله وشئون الخلائق .
[ ص: 20 ] ويطلق الصدق مجازا على كون الشيء كاملا في خصائص نوعه .
والعدل : إعطاء من يستحق ما يستحق ، ودفع الاعتداء والظلم على المظلوم ، وتدبير أمور الناس بما فيه صلاحهم ، وتقدم بيانه عند قوله تعالى : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل في سورة النساء .
فيشمل العدل كل ما في كلمات الله من تدبير شئون الخلائق في الدنيا والآخرة .
فعلى التفسير الأول للكلمات أو الكلمة ، يكون المعنى : أن القرآن بلغ أقصى ما تبلغه الكتب : في وضوح الدلالة ، وبلاغة العبارة ، وأنه الصادق في أخباره ، العادل في أحكامه ، لا يعثر في أخباره على ما يخالف الواقع ، ولا في أحكامه على ما يخالف الحق ؛ فذلك ضرب من التحدي والاحتجاج على أحقية القرآن .
وعلى التفسيرين الثاني والثالث ، يكون المعنى : نفذ ما قاله الله وما وعد وأوعد وما أمر ونهى ، صادقا ذلك كله ؛ أي : غير متخلف ، وعادلا ؛ أي : غير جائر ، وهذا تهديد للمشركين بأن سيحق عليهم الوعيد الذي توعدهم به ، فيكون كقوله تعالى : وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا أي : تم ما وعدهم به من امتلاك مشارق الأرض ومغاربها التي بارك فيها ، وقوله : وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار أي : حقت كلمات وعيده .
ومعنى : لا مبدل لكلماته نفي جنس من يبدل كلمات الله ؛ أي : من يبطل ما أراده في كلماته .
والتبديل تقدم عند قوله تعالى : قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير من سورة البقرة ، وتقدم هناك بيان أنه لا يوجد له فعل مجرد ، وأن أصل مادته هو التبديل ، والتبديل حقيقته جعل شيء مكان شيء آخر ، فيكون في الذوات كما قال تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض وقال النابغة : [ ص: 21 ]
عهدت بها حيا كراما فبدلـت خناظيل آجال النعاج الجوافل
ويكون في الصفات كقوله تعالى : ( وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا .
ويستعمل مجازا في إبطال الشيء ونقضه ، قال تعالى : يريدون أن يبدلوا كلام الله أي : يخالفوه وينقضوا ما اقتضاه ، وهو قوله : قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل وذلك أن النقض يستلزم الإتيان بشيء ضد الشيء المنقوض ، فكان ذلك اللزوم هو علاقة المجاوز وقد تقدم عند قوله تعالى : فمن بدله بعدما سمعه في سورة البقرة ، وقد استعمل في قوله : لا مبدل لكلماته مجازا في معنى المعارضة أو النقض على الاحتمالين في معنى التمام من قوله : وتمت كلمات ربك ونفي المبدل كناية عن نفي التبديل .
فإن كان المراد بالكلمات القرآن كما تقدم ، فمعنى انتفاء المبدل لكلماته انتفاء الإتيان بما ينقضه ويبطله أو يعارضه ، بأن يظهر أن فيه ما ليس بتمام ، فإن جاء أحد بما ينقضه كذبا وزورا فليس ذلك بنقض ، وإنما هو مكابرة في صورة النقض ، بالنسبة إلى ألفاظ القرآن ونظمه ، وانتفاء ما يبطل معانيه وحقائق حكمته ، وانتفاء تغيير ما شرعه وحكم به ، وهذا الانتفاء الأخير كناية عن النهي عن أن يخالفه المسلمون ، وبذلك يكون التبديل مستعملا في حقيقته ومجازه وكنايته .
ويجوز أن تكون جملة ( وتمت كلمات ربك ) عطفا على جملة ( جعلنا لكل نبيء عدوا ) وما بينهما اعتراضا ، فالكلمات مراد بها ما سنه الله وقدره من جعل أعداء لكل نبيء يزخرفون القول في التضليل ، لتصغى إليهم قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ويتبعوهم ويقترفوا السيئات ، وأن المراد بالتمام التحقق ، ويكون قوله ( لا مبدل لكلماته ) نفي أن يقدر أحد أن يغير سنة الله وما قضاه وقدره ، كقوله : فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ ص: 22 ] فتكون هذه الآية في معنى قوله : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ففيها تأنيس للرسول عليه الصلاة والسلام ، وتطمين له وللمؤمنين بحلول النصر الموعود به في إبانه .
وقوله : وهو السميع العليم تذييل لجملة ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته ) أي : وهو المطلع على الأقوال ، العليم بما في الضمائر ، وهذا تعريض بالوعيد لمن يسعى لتبديل كلماته ، فالسميع العالم بأصوات المخلوقات ، التي منها ما توحي به شياطين الإنس والجن ، بعضهم إلى بعض ، فلا يفوته منها شيء ؛ والعالم أيضا بمن يريد أن يبدل كلمات الله ، على المعاني المتقدمة ، فلا يخفى عليه ما يخوضون فيه من تبييت الكيد والإبطال له .
والعليم أعم ؛ أي : العليم بأحوال الخلق ، والعليم بمواقع كلماته ومحال تمامها ، والمنظم بحكمته لتمامها ، والموقت لآجال وقوعها .
فذكر هاتين الصفتين هنا : وعيد لمن شملته آيات الذم السابقة ، ووعد لمن أمر بالإعراض عنهم وعن افترائهم ، وبالتحاكم معهم إلى الله ، والذين يعلمون أن الله أنزل كتابه بالحق .