وهو يطعم ولا يطعم قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض .
استئناف آخر ناشئ عن جملة قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله .
وأعيد الأمر بالقول اهتماما بهذا المقول ، لأنه غرض آخر غير الذي أمر فيه بالقول قبله ، فإنه لما تقرر بالقول السابق عبودية ما في السماوات والأرض لله وأن مصير كل ذلك إليه انتقل إلى تقرير وجوب إفراده بالعبادة ، لأن ذلك نتيجة لازمة لكونه مالكا لجميع ما احتوته السماوات والأرض ، فكان هذا التقرير جاريا على طريقة التعريض إذ أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالتبرؤ من أن يعبد غير الله . والمقصود الإنكار على الذين عبدوا غيره واتخذوهم أولياء ، كما يقول القائل بمحضر المجادل المكابر ( لا أجحد الحق ) لدلالة المقام على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يصدر منه ذلك ، كيف وقد علموا أنه دعاهم إلى توحيد الله من أول بعثته ، وهذه السورة ما نزلت إلا بعد البعثة بسنين كثيرة ، كما استخلصناه مما تقدم في صدر السورة . وقد ذكر ابن عطية عن بعض المفسرين أن هذا القول أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليجيب المشركين الذين دعوه إلى عبادة أصنامهم ، أي هو مثل ما في قوله تعالى : قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ، وهو لعمري مما يشعر به أسلوب الكلام ، وإن قال ابن عطية : إن ظاهر الآية لا يتضمنه كيف ولا بد للاستئناف من نكتة .
والاستفهام للإنكار . وقدم المفعول الأول لـ أتخذ على الفعل وفاعله ليكون مواليا للاستفهام لأنه هو المقصود بالإنكار لا مطلق اتخاذ الولي . وشأن همزة الاستفهام [ ص: 157 ] بجميع استعمالاته أن يليها جزء الجملة المستفهم عنه كالمنكر هنا ، فالتقديم للاهتمام به ، وهو من جزئيات العناية التي قال فيها عبد القاهر أن لا بد من بيان وجه العناية ، وليس مفيدا للتخصيص في مثل هذا لظهور أن داعي التقديم هو تعيين المراد بالاستفهام فلا يتعين أن يكون لغرض غير ذلك . فمن جعل التقديم هنا مفيدا للاختصاص ، أي انحصار إنكار اتخاذ الولي في غير الله كما مال إليه بعض شراح الكشاف فقد تكلف ما يشهد الاستعمال والذوق بخلافه . وكلام الكشاف بريء منه بل الحق أن التقديم هنا ليس إلا للاهتمام بشأن المقدم ليلي أداة الاستفهام فيعلم أن محل الإنكار هو اتخاذ غير الله وليا ، وأما ما زاد على ذلك فلا التفات إليه من المتكلم . ولعل الذي حداهم إلى ذلك أن المفعول في هذه الآية ونظائرها مثل أفغير الله تأمروني أعبد ، أغير الله تدعون هو كلمة غير المضافة إلى اسم الجلالة ، وهي عامة في كل ما عدا الله ، فكان الله ملحوظا من لفظ المفعول فكان إنكار اتخاذ الله وليا لأن إنكار اتخاذ غيره وليا مستلزما عدم إنكار اتخاذ الله وليا ، لأن إنكار اتخاذ غير الله لا يبقى معه إلا اتخاذ الله وليا ; فكان هذا التركيب مستلزما معنى القصر وآئلا إليه وليس هو بدال على القصر مطابقة ، ولا مفيدا لما يفيده القصر الإضافي من قلب اعتقاد أو إفراد أو تعيين ، ألا ترى أنه لو كان المفعول خلاف كلمة ( غير ) لما صح اعتبار القصر ، كما لو قلت : أزيدا أتتخذ صديقا ، لم يكن مفيدا إلا إنكار اتخاذ زيد صديقا من غير التفات إلى اتخاذ غيره ، وإنما ذلك لأنك تراه ليس أهلا للصداقة فلا فرق بينه وبين قولك : أتتخذ زيدا صديقا ، إلا أنك أردت توجه الإنكار للمتخذ لا للاتخاذ اهتماما به . والفرق بينهما دقيق فأجد فيه نظرك .
ثم إن كان المشركون قد سألوا من النبيء - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ أصنامهم أولياء كان لتقديم المفعول نكتة اهتمام ثانية وهي كونه جوابا لكلام هو المقصود منه كما في قوله : أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون وقوله : قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إلى قوله : قال أغير الله أبغيكم إلها . وأشار صاحب الكشاف في قوله : أغير الله أبغي ربا الآتي في آخر السورة إلى أن تقديم غير الله على أبغي لكونه جوابا عن ندائهم له إلى عبادة آلهتهم . قال الطيبي : لأن كل تقديم إما للاهتمام أو لجواب إنكار .
[ ص: 158 ] والولي : الناصر المدبر ، ففيه معنى العلم والقدرة . يقال : تولى فلانا ، أي اتخذه ناصرا . وسمي الحليف وليا لأن المقصود من الحلف النصرة . ولما كان الإله هو الذي يرجع إليه عابده سمي وليا لذلك . ومن أسمائه تعالى الولي .
والفاطر : المبدع والخالق . وأصله من الفطر وهو الشق . وعن : ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إلي أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها . وإجراء هذا الوصف على اسم الجلالة دون وصف آخر استدلال على عدم جدارة غيره لأن يتخذ وليا ، فهو ناظر إلى قوله في أول السورة ابن عباس الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون . وليس يغني عنه قوله قبله : قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله لأن ذلك استدلال عليهم بالعبودية لله وهذا استدلال بالافتقار إلى الله في أسباب بقائهم إلى أجل .
وقوله : وهو يطعم جملة في موضع الحال ، أي يعطي الناس ما يأكلونه مما أخرج لهم من الأرض : من حبوب وثمار وكلأ وصيد . وهذا استدلال على المشركين بما هو مسلم عندهم ، لأنهم يعترفون بأن الرازق هو الله وهو خالق المخلوقات وإنما جعلوا الآلهة الأخرى شركاء في استحقاق العبادة . وقد كثر الاحتجاج على المشركين في القرآن بمثل هذا كقوله تعالى : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون .
وأما قوله : ولا يطعم بضم الياء وفتح العين فتكميل دال على الغنى المطلق كقوله تعالى : وما أريد أن يطعمون . ولا أثر له في الاستدلال إذ ليس في آلهة العرب ما كانوا يطعمونه الطعام . ويجوز أن يراد التعريض بهم فيما يقدمونه إلى أصنامهم من القرابين وما يهرقون عليها من الدماء ، إذ لا يخلو فعلهم من اعتقاد أن الأصنام تنعم بذلك .