قد يبدو في بادئ النظر عدم التناسب بين مساق الآيات السالفة ومساق هاته الآية فبينما كانت الآية السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين ، ووصف حالي المهتدين بهديه والناكبين عن صراطه وبيان إعجازه والتحدي به مع ما تخلل وأعقب ذلك من المواعظ والزواجر النافعة والبيانات البالغة والتمثيلات الرائعة ، إذا بالكلام قد جاء بخبر بأن الله تعالى لا يعبأ أن يضرب مثلا بشيء حقير أو غير حقير .
فحقيق بالناظر عند التأمل أن تظهر له المناسبة لهذا الانتقال : ذلك أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن ، فلما عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريقة الطعن في المعاني فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزه عنه كلام الله ليصلوا بذلك إلى إبطال [ ص: 358 ] أن يكون القرآن من عند الله بإلقاء الشك في نفوس المؤمنين وبذر الخصيب في تنفير المشركين والمنافقين .
روى الواحدي في أسباب النزول عن أن الله تعالى لما أنزل قوله ابن عباس إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه وقوله مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا قال المشركون أرأيتم أي شيء يصنع بهذا فأنزل الله إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها وروي عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بها المثل ضحك اليهود وقالوا : ما يشبه أن يكون هذا كلام الله ، فأنزل الله إن الله لا يستحيي الآية . والوجه أن نجمع بين الروايتين ونبين ما انطوتا عليه بأن المشركين كانوا يفزعون إلى يهود يثرب في التشاور في شأن نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم ، وخاصة بعد أن هاجر النبيء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فيتلقون منهم صورا من الكيد والتشغيب فيكون قد تظاهر الفريقان على الطعن في بلاغة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب فلما أنزل الله تعالى تمثيل المنافقين بالذي استوقد نارا وكان معظمهم من اليهود هاجت أحناقهم وضاق خناقهم فاختلفوا هذه المطاعن فقال كل فريق ما نسب إليه في إحدى الروايتين ونزلت الآية للرد على الفريقين ووضح الصبح لذي عينين .
فيحتمل أن ذلك قاله علماء اليهود الذين لا حظ لهم في البلاغة ، أو قد قالوه مع علمهم بفنون ضرب الأمثال مكابرة وتجاهلا . وكون القائلين هم اليهود هو الموافق لكون السورة نزلت بالمدينة ، وكان أشد المعاندين فيها هم اليهود ، ولأنه الأوفق بقوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله وهذه صفة اليهود ، ولأن اليهود قد شاع بينهم التشاؤم والغلو في الحذر من مدلولات الألفاظ حتى اشتهروا باستعمال الكلام الموجه بالشتم والذم كقولهم " راعنا " ، قال تعالى فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم كما ورد تفسيره في الصحيح ، ولم يكن ذلك من شأن العرب . وإما أن يكون قائله المشركين من أهل مكة مع علمهم بوقوع مثله في كلام بلغائهم كقولهم : أجرأ من ذبابة ، وأسمع من قراد ، وأطيش من فراشة ، وأضعف من بعوضة . وهذا الاحتمال أدل ، على أنهم ما قالوا : ما هذا [ ص: 359 ] التمثيل ؟ إلا مكابرة ومعاندة ، فإنهم لما غلبوا بالتحدي وعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله تعلقوا في معاذيرهم بهاته السفاسف ، والمكابر يقول ما لا يعتقد ، والمحجوج المبهوت يستعوج المستقيم ويخفي الواضح ، وإلى هذا الثاني ينزع كلام صاحب الكشاف وهو أوفق بالسياق .
والسورة وإن كانت مدنية فإن المشركين لم يزالوا يلقون الشبه في صحة الرسالة ويشيعون ذلك بعد الهجرة بواسطة المنافقين . وقد دل على هذا المعنى قوله بعده فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا إلى قوله ويهدي به كثيرا فإن قيل : لم يكن الرد عقب نزول الآيات الواقع فيها التمثيل الذي أنكروه فإن البدار بالرد على من في مقاله شبهة رائحة يكون أقطع لشبهته من تأخيره زمانا .
قلنا : الوجه في تأخير نزولها أن يقع الرد بعد الإتيان بأمثال معجبة اقتضاها مقام تشبيه الهيئات ، فذلك كما يمنع الكريم عدوه من عطاء فيلمزه الممنوع بلمز البخل ، أو يتأخر الكمي عن ساحة القتال مكيدة فيظنه ناس جبنا فيسرها الأول في نفسه حتى يأتيه القاصد فيعطيه عطاء جزلا ، والثاني حتى يكر كرة تكون القاضية على قرنه . فكذلك لما أتى القرآن بأعظم الأمثال وأروعها وهي قوله مثلهم كمثل الذي استوقد أو كصيب الآيات ، وقوله صم بكم عمي أتى إثر ذلك بالرد عليهم ، فهذا يبين لك مناسبة نزول هذه الآية عقب التي قبلها ، وقد غفل عن بيانه المفسرون .
والمراد بالمثل هنا الشبه مطلقا لا خصوص المركب من الهيئة ، بخلاف قوله فيما سبق مثلهم كمثل الذي استوقد نارا لأن المعني هنا ما طعنوا به في تشابيه القرآن مثل قوله لن يخلقوا ذبابا وقوله كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وموقع إن هنا بين .
وأما الإتيان بالمسند إليه علما دون غيره من الصفات فلأن هذا العلم جامع لجميع صفات الكمال فذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه هو أعلى كلام في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة ، وفي ذلك أيضا إبطال لتمويههم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من عند الله فليس من معنى الآية أن غير الله ينبغي له أن يستحيي أن يضرب مثلا من هذا القبيل .
ولهذا أيضا اختير أن يكون المسند خصوص فعل الاستحياء زيادة في الرد عليهم لأنهم أنكروا التمثيل بهاته الأشياء لمراعاة كراهة الناس ، ومثل هذا ضرب من الاستحياء كما سنبينه [ ص: 360 ] فنبهوا على أن الخالق لا يستحيي من ذلك إذ ليس مما يستحيى منه ، ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها والمتصرف فيها ، وقد يكون ذكر الاستحياء هنا محاكاة لقولهم أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت .
فإن قلت : إذا كان استعمال هذه الألفاظ الدالة على معان حقيرة غير مخل بالبلاغة فما بالنا نرى كثيرا من أهل النقد قد نقدوا من كلام البلغاء ما اشتمل على مثل هذا كقول : الفرزدق
من عزهم حجرت كليب بيتها زربا كأنهم لديه القمل
وقول أبي الطيب :أماتكم من قبل موتكم الجهل وجركم من خفة بكم النمل
ولو أن برغوثا على ظهر قملة يكر على ضبعي تميم لولت
فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
عذير الحي من عدوا ن كانوا حية الأرض
ماذا رزئنا به من حية ذكر نضناضة بالرزايا صل أصلال
أنت كالكلب في وفائك بالعه د وكالتيس في قراع الخطوب
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة إذا لمسوها بالأكف تلين
إذا قامت لجارتها تثنت كأن عظامها من خيزران
وكأنها لما مشت أيم تأود في كثيب
والاستحياء هنا منفي عن أن يكون وصفا لله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله ، والتعلل لذلك بأن نفي الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعلل غير مسلم .
والضرب في قوله أن يضرب مثلا مستعمل مجازا في الوضع والجعل من قولهم : ضرب خيمة وضرب بيتا . قال عبدة بن الطبيب :
إن التي ضربت بيتا مهاجرة بكوفة الجند غالت ودها غول
ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
وما إبهامية تتصل بالنكرة فتؤكد معناها من تنويع أو تفخيم أو تحقير ، نحو : لأمر ما ، وأعطاه شيئا ما . والأظهر أنها مزيدة لتكون دلالتها على التأكيد أشد ، وقيل اسم بمعنى النكرة المبهمة .
و بعوضة بدل أو بيان من قوله مثلا والبعوضة واحدة البعوض وهي حشرة صغيرة طائرة ذات خرطوم دقيق تحوم على الإنسان لتمتص بخرطومها من دمه غذاء لها ، وتعرف في لغة هذيل بالخموش ، وأهل تونس يسمونه الناموس واحدته الناموسة وقد جعلت هنا مثلا لشدة الضعف والحقارة .
وقوله فما فوقها عطف على بعوضة وأصل ( فوق ) اسم للمكان المعتلي على غيره فهو اسم مبهم ، فلذلك كان ملازما للإضافة لأنه تتميز جهته بالاسم الذي يضاف هو إليه ، فهو من أسماء الجهات الملازمة للإضافة لفظا أو تقديرا ، ويستعمل مجازا في المتجاوز غيره في صفة تجاوزا ظاهرا تشبيها بظهور الشيء المعتلي على غيره على ما هو معتل عليه ، ففوق في مثله يستعمل في معنى التغلب والزيادة في صفة سواء كانت من المحامد أو من المذام ، يقال : فلان خسيس وفوق الخسيس وفلان شجاع وفوق الشجاع ، وتقول أعطي فلان فوق حقه أي زائدا على حقه . وهو في هذه الآية صالح للمعنيين أي ما هو أشد من البعوضة في الحقارة وما هو أكبر حجما .
ونظيره قول النبيء صلى الله عليه وسلم رواه ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة مسلم ، يحتمل أقل من الشوكة في الأذى مثل نخبة النملة - كما جاء في حديث آخر - أو ما هو أشد من الشوكة مثل الوخز بسكين ، وهذا من تصاريف لفظ فوق في الكلام ، ولذلك كان لاختياره في هذه الآية دون لفظ أقل ، ودون لفظ أقوى مثلا موقع من بليغ الإيجاز .
[ ص: 363 ] والفاء عاطفة ما فوقها على بعوضة أفادت تشريكهما في ضرب المثل بهما ، وحقها أن تفيد الترتيب والتعقيب ، ولكنها هنا لا تفيد التعقيب وإنما استعملت في معنى التدرج في الرتب بين مفاعيل ( أن يضرب ) ولا تفيد أن ضرب المثل يكون بالبعوضة ويعقبه ضربه بما فوقها بل المراد بيان المثل بأنه البعوضة وما يتدرج في مراتب القوة زائدا عليها درجة تلي درجة ، فالفاء في مثل هذا مجاز مرسل علاقته الإطلاق عن القيد لأن الفاء موضوعة للتعقيب الذي هو اتصال خاص ، فاستعملت في مطلق الاتصال ، أو هي مستعارة للتدرج لأنه شبيه بالتعقيب في التأخر في التعقل كما أن التعقيب تأخر في الحصول ، ومنه : رحم الله المحلقين فالمقصرين .
والمعنى أن يضرب البعوضة مثلا فيضرب ما فوقها أي ما هو درجة أخرى أي أحقر من البعوضة مثل الذرة ، وأعظم منها مثل العنكبوت والحمار .