[ ص: 161 ] عطف القصة على القصص والمواعظ . وتقدم القول في نظائر " وإذ قال " في مواضع ، منها قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة في البقرة .
ومناسبة موقع هذه الآيات هنا أن القصة مشتملة على تذكير بنعم الله تعالى عليهم وحث على الوفاء بما عاقدوا الله عليه من الطاعة تمهيدا لطلب امتثالهم .
وقدم موسى عليه السلام أمره لبني إسرائيل بحرب الكنعانيين بتذكيرهم بنعمة الله عليهم ليهيئ نفوسهم إلى قبول هذا الأمر العظيم عليهم وليوثقهم بالنصر إن قاتلوا أعداءهم ، فذكر نعمة الله عليهم ، وعد لهم ثلاث نعم عظيمة : أولاها أن فيهم أنبياء ، ومعنى جعل الأنبياء فيهم يجوز أن يكون في عمود نسبهم فيما مضى مثل يوسف والأسباط وموسى وهارون ، ويجوز أن يراد جعل في المخاطبين أنبياء; فيحتمل أنه أراد نفسه ، وذلك بعد موت أخيه هارون ، لأن هذه القصة وقعت بعد موت هارون; فيكون قوله : " أنبياء " جمعا أريد به الجنس فاستوى الإفراد والجمع ، لأن الجنسية إذا أريدت من الجمع بطلت منه الجمعية ، وهذا الجنس انحصر في فرد يومئذ ، كقوله تعالى يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا يريد محمدا صلى الله عليه وسلم ، أو أراد من ظهر في زمن موسى من الأنبياء . فقد كانت مريم أخت موسى نبيئة ، كما هو صريح التوراة ( إصحاح : 15 من الخروج ) . وكذلك ألداد وميداد كانا نبيين في زمن موسى ، كما في التوراة ( إصحاح : 11 سفر العدد ) . وموقع النعمة في إقامة الأنبياء بينهم أن في ذلك ضمان الهدى لهم والجري على مراد الله تعالى منهم ، وفيه أيضا حسن ذكر لهم بين الأمم وفي تاريخ الأجيال .
والثانية : أن جعلهم ملوكا ، وهذا تشبيه بليغ ، أي كالملوك في تصرفهم في أنفسهم وسلامتهم من العبودية التي كانت عليهم للقبط ، وجعلهم سادة على الأمم التي مروا بها ، من الآموربين ، والعناقيين ، والحشبونيين ، والرفائيين ، والعمالقة ، والكنعانيين ، أو استعمل فعل " جعلكم " في معنى الاستقبال مثل أتى أمر الله قصدا لتحقيق الخبر ، فيكون الخبر بشارة لهم بما سيكون لهم .
[ ص: 162 ] والنعمة الثالثة أنه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، وماصدق ( ما ) يجوز أن يكون شيئا واحدا مما خص الله به بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون مجموع أشياء ؛ إذ آتاهم الشريعة الصحيحة الواسعة الهدى المعصومة ، وأيدهم بالنصر في طريقهم ، وساق إليهم رزقهم المن والسلوى أربعين سنة ، وتولى تربية نفوسهم بواسطة رسله .
وقوله : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة هو الغرض من الخطاب ، فهو كالمقصد بعد المقدمة ، ولذلك كرر اللفظ الذي ابتدأ به مقالته وهو النداء بـ " يا قوم " لزيادة استحضار أذهانهم .
والأمر بالدخول أمر بالسعي في أسبابه ، أي تهيئوا للدخول . والأرض المقدسة بمعنى المطهرة المباركة ، أي التي بارك الله فيها ، أو لأنها قدست بدفن إبراهيم عليه السلام في أول قرية من قراها وهي حبرون . وهي هنا أرض كنعان من برية صين إلى مدخل ( حماة وإلى حبرون ) . وهذه الأرض هي أرض فلسطين ، وهي الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبين نهر الأردن والبحر الميت فتنتهي إلى ( حماة ) شمالا وإلى ( غزة وحبرون ) جنوبا . وفي وصفها بـ التي كتب الله تحريض على الإقدام لدخولها .
ومعنى كتب الله : قضى وقدر ، وليس ثمة كتابة ولكنه تعبير مجازي شائع في اللغة ، لأن الشيء إذا أكده الملتزم به كتبه ، كما قال الحارث بن حلزة :
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
فأطلقت الكتابة على ما لا سبيل لإبطاله ، وذلك أن الله وعد إبراهيم أن يورثها ذريته . ووعد الله لا يخلف .وقوله : ولا ترتدوا على أدباركم تحذير مما يوجب الانهزام ، لأن ارتداد الجيش على الأعقاب من أكبر أسباب الانخذال . والارتداد افتعال من الرد ، يقال : رده فارتد ، والرد : إرجاع السائر عن الإمضاء في سيره وإعادته إلى المكان الذي [ ص: 163 ] سار منه . والأدبار : جمع دبر ، وهو الظهر . والارتداد : الرجوع ، ومعنى الرجوع على الأدبار إلى جهة الأدبار ، أي الوراء لأنهم يريدون المكان الذي يمشي عليه الماشي وهو قد كان من جهة ظهره ، كما يقولون : نكص على عقبيه ، وركبوا ظهورهم ، وارتدوا على أدبارهم ، وعلى أعقابهم ، فعدي بـ ( على ) الدالة على الاستعلاء ، أي استعلاء طريق السير ، نزلت الأدبار التي يكون السير في جهتها منزلة الطريق الذي يسار عليه .
والانقلاب : الرجوع ، وأصله الرجوع إلى المنزل قال تعالى فانقلبوا بنعمة من الله وفضل . والمراد به هنا مطلق المصير .
وضمائر ( فيها ومنها ) تعود إلى الأرض المقدسة .
وأرادوا بالقوم الجبارين في الأرض سكانها الكنعانيين ، والعمالقة ، والحثيين ، واليبوسيين ، والأموريين .
والجبار : القوي ، مشتق من الجبر ، وهو الإلزام لأن القوي يجبر الناس على ما يريد .
وكانت جواسيس موسى الاثنا عشر الذين بعثهم لارتياد الأرض قد أخبروا القوم بجودة الأرض وبقوة سكانها . وهذا كناية عن مخافتهم من الأمم الذين يقطنون الأرض المقدسة ، فامتنعوا من اقتحام القرية خوفا من أهلها ، وأكدوا الامتناع من دخول أرض العدو توكيدا قويا بمدلول ( إن ) و ( لن ) في إنا لن ندخلها تحقيقا لخوفهم .
وقوله : فإن يخرجوا منها فإنا داخلون تصريح بمفهوم الغاية في قوله : وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها لقصد تأكيد الوعد بدخولها إذا خلت من الجبارين الذين فيها .
وقد أشارت هذه الآية إلى ما في الإصحاح الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد : أن الله أمر موسى أن يرسل اثني عشر رجلا جواسيس يتجسسون أرض كنعان التي وعدها الله بني إسرائيل من كل سبط رجلا ; فعين موسى اثني عشر رجلا ، منهم : يوشع بن نون من سبط أفرايم ، ومنهم كالب بن يفنة من سبط يهوذا ، ولم يسموا بقية الجواسيس . فجاسوا خلال الأرض من برية صين إلى حماة فوجدوا الأرض ذات ثمار وأعناب ولبن وعسل ووجدوا سكانها معتزين ، [ ص: 164 ] طوال القامات ، ومدنهم حصينة . فلما سمع بنو إسرائيل ذلك وهلوا وبكوا وتذمروا على موسى وقالوا : لو متنا في أرض مصر كان خيرا لنا من أن تغنم نساؤنا وأطفالنا ، فقال يوشع وكالب للشعب : إن رضي الله عنا يدخلنا إلى هذه الأرض ولكن لا تعصوا الرب ولا تخافوا من أهلها ، فالله معنا . فأبى القوم من دخول الأرض وغضب الله عليهم . وقال لموسى : لا يدخل أحد من سنه عشرون سنة فصاعدا هذه الأرض إلا يوشع وكالبا وكلكم ستدفنون في هذا القفر ، ويكون أبناؤكم رعاة فيه أربعين سنة .