عطف على قوله أولما أصابتكم مصيبة وهو كلام وارد على معنى التسليم أي : هبوا أن هذه مصيبة ، ولم يكن عنها عوض ، فهي بقدر الله ، فالواجب التسليم ، ثم رجع إلى ذكر بعض ما في ذلك من الحكمة .
وقوله وما أصابكم أراد به عين المراد بقوله أصابتكم مصيبة وهي مصيبة الهزيمة . وإنما أعيد ما أصابكم ليعين اليوم بأنه يوم التقى الجمعان . وما موصولة مضمنة معنى الشرط كأنه قيل : وأما ما أصابكم ، لأن قوله وما أصابكم معناه بيان سببه وحكمته ، فلذلك قرن الخبر بالفاء . و ( يوم التقى الجمعان ) هو يوم أحد . وإنما لم يقل وهي بإذن الله لأن المقصود إعلان ذكر المصيبة وأنها بإذن الله إذ المقام مقام إظهار الحقيقة ، وأما التعبير بلفظ ما أصابكم دون أن يعاد لفظ المصيبة فتفنن ، أو قصد الإطناب .
والإذن هنا مستعمل في غير معناه إذ لا معنى لتوجه الإذن إلى المصيبة فهو مجاز في تخلية الله تعالى بين أسباب المصيبة وبين المصابين ، وعدم تدارك ذلك باللطف . ووجه الشبه أن الإذن تخلية بين المأذون ومطلوبه ومراده ، ذلك أن ، فإذا جاءت المسببات من قبل أسبابها فلا عجب ، والمسلمون أقل من المشركين عددا وعددا فانتصار المسلمين يوم الله تعالى رتب الأسباب والمسببات في هذا العالم على نظام بدر كرامة لهم ، وانهزامهم يوم أحد عادة وليس بإهانة . فهذا المراد بالإذن .
وقوله وليعلم المؤمنين عطف على فبإذن الله عطف العلة على السبب . والعلم هنا كناية عن الظهور والتقرر في الخارج كقول إياس بن قبيصة الطائي :
[ ص: 163 ]
وأقبلت والخطي يخطر بيننا لأعلم من جبانها من شجاعها
أراد لتظهير شجاعتي وجبن الآخرين ، وقد تقدم نظيره قريبا .عبد الله بن أبي ومن انخذل معه يوم أحد ، وهم الذين قيل فيهم : و ( الذين نافقوا ) هم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، قاله لهم ، والد عبد الله بن عمر بن حرام الأنصاري ، فإنه لما رأى انخذالهم قال لهم : اتقوا الله ولا تتركوا نبيئكم وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا . والمراد بالدفع حراسة الجيش وهو الرباط أي : ادفعوا عنا من يريدنا من العدو فلما قال جابر بن عبد الله ذلك أجابه عبد الله بن عمر بن حرام عبد الله بن أبي وأصحابه بقولهم : لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، أي لو نعلم أنه قتال ، قيل : أرادوا أن هذه ليس بقتال بل إلقاء باليد إلى التهلكة ، وقيل : أرادوا أن قريشا لا ينوون القتال ، وهذا لا يصح إلا لو كان قولهم هذا حاصلا قبل انخذالهم ، وعلى هذين فالعلم بمعنى التحقق المسمى بالتصديق عند المناطقة ، وقيل : أرادوا لو نحسن القتال لاتبعناكم . فالعلم بمعنى المعرفة ، وقولهم حينئذ تهكم وتعذر .
ومعنى هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان أن ما يشاهد من حالهم يومئذ أقرب دلالة على الكفر من دلالة أقوالهم : إنا مسلمون ، واعتذارهم بقولهم : لو نعلم قتالا لاتبعناكم . أي إن عذرهم ظاهر الكذب ، وإرادة تفشيل المسلمين ، والقرب مجاز في ظهور الكفر عليهم .
ويتعلق كل من المجرورين في قوله منهم للإيمان بقوله أقرب لأن أقرب تفضيل يقتضي فاضلا ومفضولا . فلا يقع لبس في تعليق مجرورين به لأن السامع يرد كل مجرور إلى بعض معنى التفضيل .
وقوله استئناف لبيان مغزى هذا الاقتراب ، لأنهم يبدون من حالهم أنهم مؤمنون ، فكيف جعلوا إلى الكفر أقرب ، فقيل : إن الذي يبدونه ليس موافقا لما في قلوبهم ، وفي هذا الاستئناف ما يمنع أن يكون المراد من الكفر في قوله هم للكفر أهل الكفر . ( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم )
[ ص: 164 ] وقوله الذين قالوا لإخوانهم بدل من الذين نافقوا أو صفة له ، إذا كان مضمون صلته أشهر عند السامعين ، إذ لعلهم عرفوا من قبل بقولهم فيما تقدم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فذكر هنا وصفا لهم ليتميزوا كمال تمييز . واللام في لإخوانهم للتعليل وليست للتعدية ، قالوا : كما هي فيقوله وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض .
والمراد بالإخوان هنا عين المراد هناك ، وهم الخزرج الذين قتلوا يوم أحد ، وهم من جلة المؤمنين .
وجملة وقعدوا حال معترضة ، ومعنى لو أطاعونا أي امتثلوا إشارتنا في عدم الخروج إلى أحد ، وفعلوا كما فعلنا ، وقرأ الجمهور : ما قتلوا - بتخفيف التاء - من القتل . وقرأ هشام عن ابن عامر - بتشديد التاء - من التقتيل للمبالغة في القتل ، وهو يفيد معنى تفظيعهم ما أصاب إخوانهم من القتل طعنا في طاعتهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين أي ادرءوه عند حلوله ، فإن من لم يمت بالسيف مات بغيره أي : إن كنتم صادقين في أن سبب موت إخوانكم هو عصيان أمركم .