يجوز أن يكون التفريع على الاستدلال الذي تضمنه قوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء الآيات ، فإن إثبات البعث يقتضي الجزاء إذ هو حكمته ، وإذا اقتضى الجزاء كان على العاقل أن يعمل لجزاء الحسنى ويجتنب ما يوقع في الشقاء وأن يهتم بالحياة الدائمة فيؤثرها ولا يكترث بنعيم زائل فيتورط في اتباعه ، فلذلك فرع على دليل تذكير بالجزاءين ، وإرشاد إلى النجدين . إثبات البعث
وإذ قد قدم قبل الاستدلال تحذير إجمالي بقوله : يوم ترجف الراجفة الآية ، كما يذكر المطلوب قبل القياس في الجدل ، جيء عقب الاستدلال بتفصيل ذلك التحذير مع قرنه بالتبشير لمن تحلى بضده ؛ فلذلك عبر عن البعث ابتداء بالراجفة لأنها مبدؤه ، ثم بالزجرة ، وأخيرا بالطامة الكبرى لما في هذين الوصفين من معنى يشمل الراجفة وما بعدها من الأهوال إلى أن يستقر كل فريق في مقره .
ومن تمام المناسبة للتذكير بيوم الجزاء وقوعه عقب التذكير بخلق الأرض ، والامتنان بما هيأ منها للإنسان متاعا به ، للإشارة إلى أن ذلك ينتهي عندما يحين يوم البعث والجزاء .
ويجوز أن يجعل قوله : فإذا جاءت الطامة الكبرى مفرعا على قوله : فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة فإن الطامة هي الزجرة .
ومناط التفريع هو ما عقبه من التفصيل بقوله : فأما من طغى إلخ ؛ إذ لا يلتئم تفريع الشيء على نفسه .
و ( إذا ) ظرف للمستقبل ، فلذلك إذا وقع بعد الفعل الماضي صرف إلى [ ص: 90 ] الاستقبال ، وإنما يؤتى بعد ( إذا ) بفعل المضي لزيادة تحقيق ما يفيده ( إذا ) من تحقق الوقوع .
والمجيء : هنا مجاز في الحصول والوقوع ; لأن الشيء الموقت المؤجل بأجل يشبه شخصا سائرا إلى غاية ، فإذا حصل ذلك المؤجل عند أجله ، فكأنه السائر إلى أن بلغ المكان المقصود .
والطامة : الحادثة ، أو الوقعة التي تطم ، أي : تعلو وتغلب بمعنى تفوق أمثالها من نوعها بحيث يقل مثلها في نوعها ، مأخوذ من طم الماء ، إذا غمر الأشياء وهذا الوصف يؤذن بالشدة والهول ؛ إذ لا يقال مثله إلا في الأمور المهولة ، ثم بولغ في تشخيص هولها بأن وصفت ب ( الكبرى ) فكان هذا أصرح الكلمات لتصوير ما يقارن الحادثة من الأهوال .
والمراد بالطامة الكبرى : مثل الصاخة ، والقارعة ، والراجفة ، ووصفت بالكبرى . القيامة وقد وصفت بأوصاف عديدة في القرآن
و يوم يتذكر الإنسان ما سعى بدل من جملة فإذا جاءت الطامة الكبرى بدل اشتمال ; لأن ما أضيف إليه يوم هو من الأحوال التي يشتمل عليها زمن مجيء الطامة وهو يوم القيامة ويوم الحساب . وتذكر الإنسان ما سعاه : أن يوقف على أعماله في كتابه ; لأن التذكر مطاوع ذكره .
والتذكر يقتضي سبق النسيان وهو انمحاء المعلوم من الحافظة .
والمعنى : يوم يذكر الإنسان فيتذكر ، أي : يعرض عليه عمله فيعترف به ؛ إذ ليس المقصود من التذكر إلا أثره ، وهو الجزاء ، فكني بالتذكر عن الجزاء ، قال تعالى : اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا .
وتبريز الجحيم : إظهارها لأهلها . وجيء بالفعل المضاعف لإفادة إظهار الجحيم لأنه إظهار لأجل الإرهاب .
والجحيم : جهنم . ولذلك قرن فعله بتاء التأنيث ; لأن جهنم مؤنثة في [ ص: 91 ] الاستعمال ، أو هو بتأويل النار ، والجحيم كل نار عظيمة في حفرة عميقة .
وبني فعل ( برزت ) للمجهول لعدم الغرض ببيان مبرزها إذ الموعظة في الإعلام بوقوع إبرازها يومئذ .
و ( لمن يرى ) أي : لكل راء ، ففعل ( يرى ) منزل منزلة اللازم ; لأن المقصود لمن له بصر ، كقول : البحتري
أن يرى مبصر ويسمع واع
والفاء في قوله : فأما من طغى رابطة لجواب ( إذا ) لأن جملة ( من طغى ) إلى آخرها جملة اسمية ليس فيها فعل يتعلق به ( إذا ) فلم يكن بين ( إذا ) وبين جوابها ارتباط لفظي ؛ فلذلك تجلب الفاء لربط الجواب في ظاهر اللفظ ، وأما في المعنى فيعلم أن ( إذا ) ظرف يتعلق بمعنى الاستقرار الذي بين المبتدأ والخبر .
و ( أما ) حرف تفصيل وشرط ; لأنها في معنى : مهما يكن شيء .
والطغيان تقدم معناه آنفا ، والمراد هنا : طغى على أمر الله ، كما دل عليه قوله : وأما من خاف مقام ربه .
وقدم ذكر الطغيان على ; لأن الطغيان من أكبر أسباب إيثار الحياة الدنيا ، فلما كان مسببا عنه ذكر عقبه مراعاة للترتب الطبيعي . إيثار الحياة الدنيا
والإيثار : تفضيل شيء على شيء في حال لا يتيسر فيها الجمع بين أحوال كل منهما .
ويعدى فعل الإيثار إلى اسم المأثور بتعدية الفعل إلى مفعوله ، ويعدى إلى المأثور عليه بحرف ( على ) ، قال تعالى حكاية لقد آثرك الله علينا ، وقد يترك ذكر المأثور عليه إذا كان ذكر المأثور يشير إليه كما إذا كان المأثور والمأثور عليه ضدين كما هنا لما هو شائع من المقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة .
وقد يترك ذكر المأثور اكتفاء بذكر المأثور عليه إذا كان هو الأهم كقوله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم لظهور أن المراد يؤثرون ( الفقراء ) .
[ ص: 92 ] والمراد بالحياة الدنيا حظوظها ومنافعها الخاصة بها ، أي : التي لا تشاركها فيها حظوظ الآخرة ، فالكلام على حذف مضاف ، تقديره : نعيم الحياة .
ويفهم من فعل الإيثار أن معه نبذا لنعيم الآخرة . ويرجع إيثار الحياة الدنيا إلى إرضاء هوى النفس ، وإنما يعرف كلا الحظين بالتوقيف الإلهي كما عرف الشرك وتكذيب الرسل والاعتداء على الناس والبطر والصلف وما يستتبعه ذلك من الأحوال الذميمة .
وملاك هذا الإيثار هو الطغيان على أمر الله ، فإن سادتهم ومسيريهم يعلمون أن ما يدعوهم إليه الرسول هو الحق ، ولكنهم يكرهون متابعته استكبارا على أن يكونوا تبعا للغير فتضيع سيادتهم ، وقد زاد هذا المفاد بيانا قوله بعده وأما من خاف مقام ربه الآية . وبه يظهر أن مناط الذم في إيثار الحياة الدنيا هو إيثارها على الآخرة ، فأما الأخذ بحظوظ الحياة الدنيا التي لا يفيت الأخذ بها حظوظ الآخرة فذلك غير مذموم ، وهو مقام كثير من عباد الله الصالحين حكاه الله تعالى عن صالحي بني إسرائيل من قولهم لقارون وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا .
وقوله : من خاف مقام ربه مقابل قوله : من طغى ؛ لأن الخوف ضد الطغيان ، وقوله : ونهى النفس عن الهوى مقابل قوله : وآثر الحياة الدنيا .
ونهي الخائف نفسه مستعار للانكفاف عن تناول ما تحبه النفس من المعاصي والهوى ، فجعلت نفس الإنسان بمنزلة شخص آخر يدعوه إلى السيئات وهو ينهاه عن هذه الدعوة ، وهذا يشبه ما يسمى بالتجريد ، يقولون : قالت له نفسه كذا فعصاها ، ويقال : نهى قلبه ، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول عروة بن أذينة :
وإذا وجدت لها وساوس سلوة شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
والمراد بـ ( الهوى ) ما تهواه النفس ، فهو مصدر بمعنى المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق ، فهو ما ترغب فيه قوى النفس الشهوية والغضبية مما يخالف الحق والنفع الكامل . وشاع الهوى في المرغوب الذميم ولذلك قيل في قوله تعالى : [ ص: 93 ] ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله أن ( بغير هدى ) حال مؤكدة ليست تقييدا ؛ إذ لا يكون الهوى إلا بغير هدى .
وتعريف الهوى تعريف الجنس .
والتعريف في ( المأوى ) الأول والثاني تعريف العهد ، أي : مأوى من طغى ، ومأوى من خاف مقام ربه ، وهو تعريف مغن عن ذكر ما يضاف إليه ( مأوى ) ومثله شائع في الكلام كما في قوله : غض الطرف ، أي : الطرف المعهود من الأمر ، أي : غض طرفك ، وقوله : واملأ السمع ، أي : سمعك ، وقوله تعالى : وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال أي : على أعراف الحجاب ، ولذلك فتقدير الكلام عند نحاة البصرة المأوى له أو مأواه عند نحاة الكوفة ، ويسمي نحاة الكوفة الألف واللام هذه عوضا عن المضاف إليه وهي تسمية حسنة لوضوحها واختصارها ، ويأبى ذلك البصريون ، وهو خلاف ضئيل ؛ إذ المعنى متفق عليه .
والمأوى : اسم مكان من أوى إذا رجع ، فالمراد به : المقر والمسكن ; لأن المرء يذهب إلى قضاء شؤونه ثم يرجع إلى مسكنه .
و ( مقام ربه ) مجاز عن الجلال والمهابة ، وأصل المقام مكان القيام فكان أصله مكان ما يضاف هو إليه ، ثم شاع إطلاقه على نفس ما يضاف إليه على طريقة الكناية بتعظيم المكان عن تعظيم صاحبه ، مثل ألفاظ : جناب ، وكنف ، وذرى ، قال تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان وقال : ذلك لمن خاف مقامي وذلك من قبيل الكناية المطلوب بها نسبة إلى المكنى عنه فإن خوف مقام الله مراد به خوف الله والمراد بالنسبة ما يشمل التعلق بالمفعول .
وفي قوله : يوم يتذكر الإنسان ما سعى إلى قوله : فإن الجنة هي المأوى محسن الجمع مع التقسيم .
[ ص: 94 ] وتعريف ( النفس ) في قوله : ( ونهى النفس ) هو مثل التعريف في ( المأوى ) .
وفي تعريف ( أصحاب الجحيم ) و ( أصحاب الجنة ) بطريق الموصول إيماء إلى أن الصلتين علتان في استحقاق ذلك المأوى .