فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى .
الفاء في قوله : فأراه الآية الكبرى فصيحة ، وتفريع على محذوف يقتضيه قوله : اذهب إلى فرعون . والتقدير : فذهب فدعاه فكذبه فأراه الآية الكبرى ، وذلك لأن قوله : ( إنه طغى ) يؤذن بأنه سيلاقي موسى بالاحتقار والإنكار ; لأن الطغيان مظنة ذينك ، فعرض دعوة موسى عليه إظهار آية تدل على صدق دعوته لعله يوقن كما قال تعالى : قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فتلك هي الآية الكبرى المرادة هنا .
والآية : حقيقتها العلامة والأمارة ، وتطلق على الحجة المثبتة لأنها علامة على ثبوت الحق ، وتطلق على معجزة الرسول ; لأنها دليل على صدق الرسول وهو المراد هنا .
وأعقب فعل فأراه الآية الكبرى بفعل ( فكذب ) للدلالة على شدة عناده ومكابرته ، حتى أنه رأى الآية فلم يتردد ولم يتمهل حتى ينظر في الدلالة بل بادر إلى التكذيب والعصيان .
[ ص: 79 ] والمراد بعصيانه عصيان أمر الله أن يوحده أو أن يطلق بني إسرائيل من استعبادهم وتسخيرهم للخدمة في بلاده .
وعطف ثم أدبر يسعى ب ( ثم ) للدلالة على التراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، فأفادت ( ثم ) أن مضمون الجملة المعطوف بها أعلى رتبة في الغرض الذي تضمنته الجملة قبلها ، أي أنه ارتقى من التكذيب والعصيان إلى ما هو أشد وهو الإدبار والسعي وادعاء الإلهية لنفسه ، أي : بعد أن فكر مليا لم يقتنع بالتكذيب والعصيان فخشي أنه إن سكت ربما تروج دعوة موسى بين الناس فأراد الحيطة لدفعها وتحذير الناس منها .
والإدبار والسعي مستعملان في معنييهما المجازيين ، فإن حقيقة الإدبار هو المشي إلى الجهة التي هي خلف الماشي بأن يكون متوجها إلى جهة ثم يتوجه إلى جهة تعاكسها ، وهو هنا مستعار للإعراض عن دعوة الداعي مثل قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لمسيلمة لما أبى الإيمان : . ولئن أدبرت ليعقرنك الله
وأما السعي فحقيقته : شدة المشي ، وهو هنا مستعار للحرص والاجتهاد في أمره الناس بعدم الإصغاء لكلام موسى ، وجمع السحرة لمعارضة معجزته ؛ إذ حسبها سحرا ، كما قال تعالى : فتولى فرعون فجمع كيده .
والعمل الذي يسعى إليه يبينه قوله تعالى : فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فثلاثتها مرتبة على يسعى .
فجملة ( فحشر ) عطف على جملة ( يسعى ) ; لأن فرعون بذل حرصه ليقنع رعيته بأنه الرب الأعلى خشية شيوع دعوة موسى لعبادة الرب الحق .
ويجوز أن يكون ( أدبر ) على حقيقته ، أي : ترك ذلك المجمع بأن قام معرضا إعلانا بغضبه على موسى ويكون ( يسعى ) مستعملا في حقيقته أيضا ، أي : قام يشتد في مشيه وهي مشية الغاضب المعرض .
والحشر : جمع الناس ، وهذا الحشر هو المبين في قوله تعالى : قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم .
[ ص: 80 ] وحذف مفعول ( حشر ) لظهوره ; لأن الذين يحشرون هم أهل مدينته من كل صنف .
وعطف ( فنادى ) بالفاء لإفادة أنه أعلن هذا القول لهم بفور حضورهم لفرط حرصه على إبلاغ ذلك إليهم .
والنداء : حقيقته جهر الصوت بدعوة أحد ليحضر ولذلك كانت حروف النداء نائبة مناب أدعو فنصبت الاسم الواقع بعدها . ويطلق النداء على رفع الصوت دون طلب حضور مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم ، كقول الحريري في المقامة الثلاثين : " فحين جلس كأنه ابن ماء السماء ، نادى مناد من قبل الأحماء " إلخ ، وحذف مفعول ( نادى ) كما حذف مفعول ( حشر ) .
وإسناد الحشر والنداء إلى فرعون مجاز عقلي ; لأنه لا يباشر بنفسه حشر الناس ولا نداءهم ، ولكن يأمر أتباعه وجنده ، وإنما أسند إليه لأنه الذي أمر به ، كقولهم : بنى المنصور بغداد .
والقول الذي نادى به هو تذكير قومه بمعتقدهم فيه ؛ فإنهم كانوا يعتبرون ملك مصر إلها ; لأن الكهنة يخبرونهم بأنه ابن آمون رع الذي يجعلونه إلها ومظهره الشمس .
وصيغة الحصر في ( أنا ربكم ) لرد دعوة موسى .
وقوله : فقال أنا ربكم الأعلى بدل من جملة ( فنادى ) بدلا مطابقا بإعادة حرف العطف ، وهو الفاء ; لأن البدل قد يقترن بمثل العامل في المبدل منه لقصد التأكيد كما في قوله تعالى : ومن النخل من طلعها قنوان دانية وتقدم في سورة الأنعام .
ويجوز أن تكون جملة فقال أنا ربكم عطفا على جملة ( يسعى ) على أن يكون فرعون أمر بهذا القول في أنحاء مملكته ، وليس قاصرا على إعلانه في الحشر الذين حشرهم حول قصره .
فوصف نفسه بالرب الأعلى لأنه ابن آمون رع وهو الرب الأعلى ، فابنه هو [ ص: 81 ] القائم بوصفه ، أو لأنه كان في عصر اعتقاده : أن فرعون رب الأرباب المتعددة عندهم فصفة الأعلى صفة كاشفة .