عدل عن أن يجابوا بتعيين وقت ليوم القيامة إلى أن يهددوا بأهواله ، لأنهم لم يكونوا جادين في سؤالهم فكان من مقتضى حالهم أن ينذروا بما يقع من الأهوال [ ص: 344 ] عند حلول هذا اليوم مع تضمين تحقيق وقوعه فإن كلام القرآن إرشاد وهدي ما يترك فرصة للهدي والإرشاد إلا انتهزها ، وهذا تهديد في ابتدائه جاء في صورة التعيين لوقت يوم القيامة إيهاما بالجواب عن سؤالهم كأنه حمل لكلامهم على خلاف الاستهزاء على طريقة الأسلوب الحكيم . وفيه تعريض بالتوبيخ على أن فرطوا في التوقي من ذلك اليوم واشتغلوا بالسؤال عن وقته . وقريب منه ما . روي أن رجلا من المسلمين سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : متى الساعة ؟ فقال له : ماذا أعددت لها
فإن هذه الأحوال المذكورة في الآية مما يقع عند حلول الساعة وقيام القيامة فكان ذلك شيئا من تعيين وقته بتعيين أشراطه .
والفاء لتفريع الجواب عن السؤال .
و ( برق ) قرأه الجمهور بكسر الراء ، ومعناه : دهش وبهت ، يقال : برق يبرق فهو برق من باب فرح فهو من أحوال الإنسان .
وإنما أسند في الآية إلى البصر على سبيل المجاز العقلي تنزيلا له منزلة مكان البرق لأنه إذا بهت شخص بصره . كما أسند الأعشى البرق إلى الأعين في قوله :
كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق
وقرأه نافع وأبو جعفر بفتح الراء من البريق بمعنى اللمعان ، أي لمع البصر من شدة شخوصه ، ومضارعه يبرق بضم الراء . وإسناده إلى البصر حقيقة .ومآل معنى القراءتين واحد وهو الكناية عن الفزع والرعب كقوله تعالى ( واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ) ، فلا وجه لترجيح قراءة الجمهور على قراءة الطبري نافع وأبي جعفر ، لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من مقتضى التفسير .
والتعريف في ( البصر ) للجنس المراد به الاستغراق ، أي أبصار الناس كلهم من الشدة الحاصلة في ذلك الوقت ، على أنهم متفاوتون في الرعب الحاصل لهم على تفاوتهم فيما يعرضون عليه من طرائق منازلهم .
[ ص: 345 ] وخسوف القمر أريد به انطماس نوره انطماسا مستمرا بسبب تزلزله من مداره حول الأرض الدائرة حول الشمس بحيث لا ينعكس عليه نورها ولا يلوح للناس نيرا ، وهو ما دل عليه قوله ( وجمع الشمس والقمر ) ، فهذا الخسوف ليس هو خسوفه المعتاد عندما تحول الأرض بين القمر وبين مسامتته الشمس .
ومعنى جمع الشمس والقمر : التصاق القمر بالشمس فتلتهمه الشمس لأن القمر منفصل من الأرض التي هي من الأجرام الدائرة حول الشمس كالكواكب ويكون ذلك بسبب اختلال الجاذبية التي وضع الله عليها النظام الشمسي .
و ( إذا برق البصر ) ظرف متعلق بـ ( يقول الإنسان ) ، وإنما قدم على عامله للاهتمام بالظرف لأنه المقصود من سياق مجاوبة قوله ( يسأل أيان يوم القيامة ) .
وطوي التصريح بأن ذلك حلول يوم القيامة اكتفاء بذكر ما يدل عليه وهو قولهم ( أين المفر ) فكأنه قيل : حل يوم القيامة وحضرت أهواله يقول الإنسان يومئذ ثم تأكد بقوله ( إلى ربك يومئذ المستقر ) .
و ( يومئذ ) ظرف متعلق بـ ( يقول ) أيضا ، أي يوم إذ يبرق البصر ويخسف القمر ويجمع الشمس والقمر ، فتنوين ( إذ ) تنوين عوض عن الجملة المحذوفة التي دلت عليها الجملة التي أضيف إليها ( إذ ) .
وذكر ( يومئذ ) مع أن قوله ( إذا برق البصر ) إلخ مغن عنه للاهتمام بذكر ذلك اليوم الذي كانوا ينكرون وقوعه ويستهزئون فيسألون عن وقته ، وللتصريح بأن حصول هذه الأحوال الثلاثة في وقت واحد .
والإنسان : هو المتحدث عنه من قوله ) أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ، أي يقول الإنسان الكافر يومئذ : أين المفر .
والمفر : بفتح الميم وفتح الفاء مصدر ، والاستفهام مستعمل في التمني ، أي ليت لي فرارا في مكان نجاة ، ولكنه لا يستطيعه .
و ( أين ) ظرف مكان .
و ( كلا ) ردع وإبطال لما تضمنه ( أين المفر ) من الطمع في أن يجد للفرار سبيلا .
[ ص: 346 ] والوزر : المكان الذي يلجأ إليه للتوقي من إصابة مكروه مثل الجبال والحصون .
فيجوز أن يكون ( كلا لا وزر ) كلاما مستأنفا من جانب الله تعالى جوابا لمقالة الإنسان ، أي لا وزر لك ، فينبغي الوقف على ( المفر ) . ويجوز أن يكون من تمام مقالة الإنسان ، أي يقول : أين المفر ؟ ويجيب نفسه بإبطال طمعه فيقول ( كلا لا وزر ) أي لا وزر لي ، وذلك بأن نظر في جهاته فلم يجد إلا النار كما ورد في الحديث ، فيحسن أن يوصل ( أين المفر ) بجملة ( كلا لا وزر ) .
وأما قوله ( إلى ربك يومئذ المستقر ) فهو كلام من جانب الله تعالى خاطب به النبيء صلى الله عليه وسلم في الدنيا بقرينة قوله يومئذ ، فهو اعتراض وإدماج للتذكير بملك ذلك اليوم .
وفي إضافة ( رب ) إلى ضمير النبيء - صلى الله عليه وسلم - إيماء إلى أنه ناصره يومئذ بالانتقام من الذين لم يقبلوا دعوته .
والمستقر : مصدر ميمي من استقر إذا قر في المكان ولم ينتقل ، والسين والتاء للمبالغة في الوصف .
وتقديم المجرور لإفادة الحصر ، أي إلى ربك لا إلى ملجأ آخر . والمعنى : لا ملجأ يومئذ للإنسان إلا منتهيا إلى ربك ، وهذا كقوله تعالى ( وإلى الله المصير ) .
وجملة ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) مستأنفة استئنافا بيانيا أثاره قوله ( إلى ربك يومئذ المستقر ) ، أو بدل اشتمال من مضمون تلك الجملة ، أي إلى الله مصيرهم وفي مصيرهم ينبأون بما قدموا وما أخروا .
وينبغي أن يكون المراد بـ ( الإنسان ) الكافر جريا على سياق الآيات السابقة لأنه المقصود بالكلام وإن كان كل إنسان ينبأ يومئذ بما قدم وأخر من أهل الخير ومن أهل الشر قال تعالى ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء ) الآية . واختلاف مقامات الكلام يمنع من حمل ما يقع فيها من الألفاظ على محمل واحد ، فإن في القرآن فنونا من التذكير لا تلزم طريقة واحدة . وهذا مما يغفل عن مراعاته بعض المفسرين في حملهم معاني الآيات المتقاربة المغزى على محامل متماثلة .
[ ص: 347 ] وتنبئة الإنسان بما قدم وأخر كناية عن مجازاته على ما فعله إن خيرا فخير وإن سوءا فسوء ، إذ يقال له : هذا جزاء الفعلة الفلانية فيعلم من ذلك فعلته ويلقى جزاءها ، فكان قال تعالى ( الإنباء من لوازم الجزاء قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم ) ويحصل في ذلك الإنباء تقريع وفضح لحاله .
والمراد بـ ( ما قدم ) : ما فعله و بـ ( ما أخر ) : ما تركه مما أمر بفعله أو نهي عن فعله في الحالين فخالف ما كلف به ومما علمه النبيء - صلى الله عليه وسلم - من الدعاء " " . فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت