إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون يحتمل أن تكون هذه الجملة تعليلا لقوله ويؤخركم إلى أجل مسمى ، أي : تعليلا للربط الذي بين الأمر وجزائه من قوله أن اعبدوا الله إلى قوله ويؤخركم إلخ ؛ لأن الربط بين الأمر وجوابه يعطي بمفهومه معنى : إن لا تعبدوا الله ولا تتقوه ولا تطيعوني لا يغفر لكم ولا يؤخركم إلى أجل مسمى ، فعلل هذا [ ص: 191 ] الربط والتلازم بين هذا الشرط المقدر وبين جزائه بجملة إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، أي : أن الوقت الذي عينه الله لحلول العذاب بكم إن لم تعبدوه ولم تطيعون إذا جاء إبانه باستمراركم على الشرك لا ينفعكم الإيمان ساعتئذ ، كما قال تعالى فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ، فيكون هذا حثا على التعجيل بعبادة الله وتقواه .
فالأجل الذي في قوله إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر غير الأجل الذي في قوله ويؤخركم إلى أجل مسمى ويناسب ذلك قوله عقبه لو كنتم تعلمون المقتضي أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة المتعلقة بآجال الأمم المعينة لاستئصالهم ، وأما فمعلوم للناس مشهور في كلام الأولين . وفي إضافة ( أجل ) إلى اسم الجلالة في قوله عدم تأخير آجال الأعمار عند حلولها إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر إيماء إلى أنه ليس الأجل المعتاد بل هو أجل عينه الله للقوم إنذارا لهم ليؤمنوا بالله . ويحتمل أن تكون الجملة استئنافا بيانيا ناشئا عن تحديد غاية تأخيرهم إلى أجل مسمى أي : دون تأخيرهم تأخيرا مستمرا فيسأل السامع في نفسه عن علة تنهية تأخيرهم بأجل آخر فيكون أجل الله غير الأجل الذي في قوله إلى أجل مسمى .
ويحتمل أن تكون الجملة تعليلا لكلا الأجلين : الأجل المفاد من قوله من قبل أن يأتيهم عذاب أليم فإن لفظ " قبل " يؤذن بأن العذاب موقت بوقت غير بعيد فله أجل مبهم غير بعيد ، والأجل المذكور بقوله ويؤخركم إلى أجل مسمى فيكون أجل الله صادقا على الأجل المسمى وهو أجل كل نفس من القوم .
وإضافته إلى الله إضافة كشف ، أي : الأجل الذي عينه الله وقدره لكل أحد .
وبهذا تعلم أنه لا تعارض بين قوله ويؤخركم إلى أجل مسمى وبين قوله إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر إما لاختلاف المراد بلفظي ( الأجل ) في قوله إلى أجل مسمى وقوله إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، وإما لاختلاف معنيي التأخير في قوله إذا جاء لا يؤخر فانفكت جهة التعارض .
[ ص: 192 ] أما مسألة تأخير الآجال والزيادة في الأعمار والنقص منها وتوحيد الأجل عندنا واضطراب أقوال المعتزلة في هل للإنسان أجل واحد أو أجلان ؟ فتلك قضية أخرى ترتبط بأصلين : أصل ، وأصل العلم الإلهي بما سيكون . تقدير الله للأسباب وترتب مسبباتها عليها
فأما ما في علم الله فلا يتغير قال تعالى وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب أي : في علم الله ، والناس لا يطلعون على ما في علم الله .
وأما وجود الأسباب كلها كأسباب الحياة ، وترتب مسبباتها عليها فيتغير بإيجاد الله مغيرات لم تكن موجودة إكراما لبعض عباده أو إهانة لبعض آخر . وفي الحديث " " وهو حديث حسن مقبول . وعن صدقة المرء المسلم تزيد في العمر علي عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - وسنده جيد ، فآجال الأعمار المحددة بالزمان أو بمقدار قوة الأعضاء وتناسب حركتها قابلة للزيادة والنقص . وآجال العقوبات الإلهية المحددة بحصول الأعمال المعاقب عليها بوقت قصير أو فيه مهلة غير قابلة للتأخير وهي ماصدق قوله من سره أن يمد في عمره فليتق الله وليصل رحمه إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر وقد قال الله تعالى يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب على أظهر التأويلات فيه وما في علم الله من ذلك لا يخالف ما يحصل في الخارج .
فالذي رغب نوح قومه فيه هو سبب تأخير آجالهم عند الله فلو فعلوه تأخرت آجالهم وبتأخيرها يتبين أن قد تقرر في علم الله أنهم يعملون ما يدعوهم إليه نوح وأن آجالهم تطول ، وإذ لم يفعلوه فقد كشف للناس أن الله علم أنهم لا يفعلون ما دعاهم إليه نوح وأن الله قاطع آجالهم ، وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - وقد استعصى فهم هذا على كثير من الناس فخلطوا بين ما هو مقرر في علم الله وما أظهره قدر الله في الخارج الوجودي . اعملوا فكل ميسر إلى ما خلق له
وفي إقحام فعل ( كنتم ) قبل ( تعلمون ) إيذان بأن عملهم بذلك المنتفي لوقوعه شرطا لحرف ( لو ) محقق انتفاؤه كما بيناه في قوله تعالى أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم في سورة يونس .
[ ص: 193 ] وجواب ( لو ) محذوف دل عليه قوله لا يؤخر . والتقدير : لأيقنتم أنه لا يؤخر .