كان كفار قريش يستهزئون فيسألون النبيء - صلى الله عليه وسلم - : متى هذا العذاب الذي تتوعدنا به ، ويسألونه تعجيله قال تعالى ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( ويستعجلونك بالعذاب ) وكانوا أيضا يسألون الله أن يوقع عليهم عذابا إن كان القرآن حقا من عنده قال تعالى وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم .
وقيل : إن السائل شخص معين هو النضر بن الحارث قال : إن كان هذا - أي القرآن - هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم .
وكان النبيء - صلى الله عليه وسلم - يسأل الله أن يعينه على المشركين بالقحط فأشارت الآية إلى ذلك كله ، ولذلك فالمراد ب ( سائل ) فريق أو شخص .
[ ص: 154 ] والسؤال مستعمل في معنيي الاستفهام عن شيء والدعاء ، على أن استفهامهم مستعمل في التهكم والتعجيز . ويجوز أن يكون ( سأل سائل ) بمعنى استعجل وألح .
وقرأ الجمهور ( سأل ) بإظهار الهمزة . وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ( سال ) بتخفيف الهمزة ألفا . قال في الكشاف : وهي لغة قريش وهو يريد أن قريشا قد يخففون المهموز في مقام الثقل وليس ذلك قياسا في لغتهم بل لغتهم تحقيق الهمز ولذلك قال سيبويه : وليس ذا بقياس متلئب أي مطرد مستقيم وإنما يحفظ عن العرب ، قال : ويكون قياسا متلئبا إذا اضطر الشاعر ، قال : الفرزدق
راحت بمسلمة البغال عـشـية فارعي فزارة لا هناك المرتع
يريد لا هنأك بالهمز .
وقال حسان :
سالت هذيل رسول الله فاحـشة ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
يريد سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إباحة الزنى .
وقال القرشي زيد بن عمرو بن نفيل يذكر زوجيه :
سألتاني الطلاق أن رأتاني قل مالي قد جيتماني بنكر
فهؤلاء ليس لغتهم سال ولا يسال وبلغنا أن سلت تسال لغة اهـ . فجعل إبدال الهمز ألفا للضرورة مطردا ولغير الضرورة يسمع ولا يقاس عليه فتكون قراءة التخفيف سماعا . وذكر الطيبي عن أبي علي في الحجة : أن من قرأ ( سال ) غير مهموز جعل الألف منقلبة عن الواو التي هي عين الكلمة مثل : قال وخاف . وحكى أبو عثمان عن أبي زيد أنه سمع من يقول : هما متساولان . وقال في الكشاف : يقولون - أي أهل الحجاز - سلت تسال وهما يتسايلان . أي فهو أجوف يائي مثل هاب يهاب . وكل هذه تلتقي في أن نطق أهل الحجاز ( سال ) غير مهموز سماعي ، وليس بقياس عندهم وأنه إما تخفيف للهمزة على غير قياس مطرد وهو رأي وإما لغة لهم في هذا الفعل وأفعال أخرى جاء هذا الفعل أجوف واويا كما هو رأي سيبويه ، أبي علي أو أجوف يائيا كما هو رأي . وبذلك يندحض تردد الزمخشري أبي حيان جعل قراءة ( سال ) لغة الزمخشري أهل الحجاز إذ قد يكون لبعض القبائل لغتان في فعل واحد .
[ ص: 155 ] وإنما اجتلب هنا لغة المخفف لثقل الهمز المفتوح بتوالي حركات قبله وبعده وهي أربع فتحات ، ولذلك لم يرد في القرآن مخففا في بعض القراءات إلا في هذا الموضع ؛ إذ لا نظير له في توالي حركات ، وإلا فإنه لم يقرأ أحد بالتخفيف في قوله ( وإذا سألك عبادي ) وهو يساوي ( سال سائل بعذاب ) بله قوله : سالتهم وتسالهم ولا يسالون .
وقوله ( سال سائل ) بمنزلة سئل ؛ لأن مجيء فاعل الفعل اسم فاعل من لفظ فعله لا يفيد زيادة علم بفاعل الفعل ما هو ، فالعدول عن أن يقول : سئل بعذاب ، إلى قوله ( سال سائل بعذاب ) ؛ لزيادة تصوير هذا السؤال العجيب ، ومثله قول يزيد بن عمرو بن خويلد يهاجي النابغة :
وإن الغدر قد علمت معد بناه في بني ذبيان باني
فإن تسألوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيب
وقوله ( للكافرين ) يجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا ب ( واقع ) ، ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا خبرا لمبتدأ محذوف ، والتقدير : هو للكافرين .
واللام لشبه الملك ، أي عذاب من خصائصهم كما قال تعالى فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين .
ووصف العذاب بأنه واقع ، وما بعده من أوصافه إلى قوله ( إنهم يرونه بعيدا ) إدماج معترض ليفيد تعجيل الإجابة عما سأل عنه سائل بكلا معنيي [ ص: 156 ] السؤال ؛ لأن السؤال لم يحك فيه عذاب معين وإنما كان مجملا ؛ لأن السائل سأل عن عذاب غير موصوف ، أو الداعي دعا بعذاب غير موصوف ، فحكي السؤال مجملا ليرتب عليه وصفه بهذه الأوصاف والتعلقات ، فينتقل إلى ذكر أحوال هذا العذاب وما يحف به من الأهوال .
وقد طويت في مطاوي هذه التعلقات جمل كثيرة كان الكلام بذلك إيجازا ؛ إذ حصل خلالها ما يفهم منه جواب السائل ، واستجابة الداعي ، والإنباء بأنه عذاب واقع عليهم من الله لا يدفعه عنهم دافع ، ولا يغرهم تأخره .
وهذه الأوصاف من قبيل الأسلوب الحكيم ؛ لأن ما عدد فيه من أوصاف العذاب وهوله ووقته هو الأولى لهم أن يعلموه ليحذروه ، دون أن يخوضوا في تعيين وقته ، فحصل من هذا كله معنى : أنهم سألوا عن العذاب الذي هددوا به عن وقته ووصفه سؤال استهزاء ، ودعوا الله أن يرسل عليهم عذابا إن كان القرآن حقا ؛ إظهارا لقلة اكتراثهم بالإنذار بالعذاب . فأعلمهم أن العذاب الذي استهزءوا به واقع لا يدفعه عنهم تأخر وقته ، فإن أرادوا النجاة فليحذروه .
وقوله ( من الله ) يتنازع تعلقه وصفا ( واقع ) و ( دافع ) . و ( من ) للابتداء المجازي على كلا التعلقين مع اختلاف العلاقة بحسب ما يقتضيه الوصف المتعلق به .
فابتداء الواقع استعارة لإذن الله بتسليط العذاب على الكافرين وهي استعارة شائعة تساوي الحقيقة . وأما ابتداء الدافع فاستعارة لتجاوزه مع المدفوع عنه من مكان مجازي تتناوله قدرة القادر مثل ( من ) في قوله تعالى وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه وقوله يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله .
وبهذا يكون حرف ( من ) مستعملا في معنيين مجازيين متقاربين .
وإجراء وصف ( ذي المعارج ) على اسم الجلالة لاستحضار عظمة جلاله ولإدماج الإشعار بكثرة مراتب القرب من رضاه وثوابه ، فإن المعارج من خصائص منازل العظماء قال تعالى لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون . ولكل درجة المعارج قوم عملوا لنوالها قال تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ، وليكون من هذا الوصف تخلص إلى ذكر يوم الجزاء الذي يكون فيه العذاب الحق للكافرين .
[ ص: 157 ] والمعارج : جمع معرج بكسر الميم وفتح الراء وهو ما يعرج به ، أي يصعد من سلم ومدرج .