جملة " ويعلمه " معطوفة على جملة ويكلم الناس في المهد بعد انتهاء الاعتراض .
وقرأ نافع ، وعاصم : ويعلمه - بالتحتية - أي يعلمه الله . وقرأه الباقون بنون العظمة ، على الالتفات .
والكتاب مراد به الكتاب المعهود . وعطف التوراة تمهيد لعطف الإنجيل ويجوز أن يكون الكتاب بمعنى الكتابة وتقدم الكلام على التوراة والإنجيل في أول السورة .
ورسولا عطف على جملة " يعلمه " لأن جملة الحال ، لكونها ذات محل من الإعراب ، هي في قوة المفرد فنصب " رسولا " على الحال ، وصاحب الحال هو قوله " بكلمة " فهو من بقية كلام الملائكة .
وفتح همزة " أن " في قوله أني قد جئتكم لتقدير باء الجر بعد " رسولا " أي رسولا بهذا المقال لما تضمنه وصف " رسولا " من كونه مبعوثا بكلام ، فهذا مبدأ كلام بعد انتهاء كلام الملائكة .
[ ص: 250 ] ومعنى جئتكم أرسلت إليكم من جانب الله ونظيره قوله تعالى : ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة .
وقوله " بآية " حال من ضمير " جئتكم " لأن المقصود الإخبار بأنه رسول لا بأنه جاء بآية . شبه أمر الله إياه بأن يبلغ رسالة بمجيء المرسل من قوم إلى آخرين ولذلك سمي النبيء رسولا .
والباء في قوله " بآية " للملابسة أي مقارنا للآيات الدالة على صدقي في هذه الرسالة المعبر عنها بفعل المجيء . والمجرور متعلق بـ " جئتكم " على أنه ظرف لغو ، ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا في موضع الحال من " جئتكم " لأن معنى " جئتكم " : أرسلت إليكم ، فلا يحتاج إلى ما يتعلق به .
وقوله : إني أخلق ، بكسر الهمزة استئناف لبيان آية وهي قراءة نافع ، وأبي جعفر . وقرأه الباقون بفتح همزة " أني " على أنه بدل من أني قد جئتكم .
والخلق : حقيقته تقدير شيء بقدر ، ومنه خلق الأديم تقديره بحسب ما يراد من قطعه قبل قطع القطعة منه ، قال زهير :
ولأنت تفري مـا خـلـقـت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري
يريد تقدير الأديم قبل قطعه والقطع هو الفري ، ويستعمل مجازا مشهورا أو مشتركا في الإنشاء والإبداع على غير مثال ولا احتذاء ، وفي الإنشاء على مثال يبدع ويقدر ، قال تعالى : ولقد خلقناكم ثم صورناكم فهو إبداع الشيء وإبرازه للوجود والخلق هنا مستعمل في حقيقة أي : أقدر لكم من الطين كهيئة الطير ، وليس المراد به خلق الحيوان ، بدليل قوله فأنفخ فيه .وتقدم الكلام على لفظ الطير في قوله تعالى : فخذ أربعة من الطير في سورة البقرة . والكاف في قوله : كهيئة الطير بمعنى مثل ، وهي صفة لموصوف محذوف دل عليه أخلق ، أي شيئا مقدرا مثل هيئة الطير . وقرأ الجمهور الطير وهو اسم يقع على الجمع غالبا وقد يقع على الواحد . وقرأه أبو جعفر : ( الطائر ) .
[ ص: 251 ] والضمير المجرور بـ " في " من قوله فأنفخ فيه عائد إلى ذلك الموصوف المحذوف الذي دلت عليه الكاف .
وقرأ نافع - وحده - فيكون طائرا بالإفراد وقرأ الباقون فيكون طيرا بصيغة اسم الجمع ، فقراءة نافع على مراعاة انفراد الضمير ، وقراءة الباقين على اعتبار المعنى . جعل لنفسه التقدير ، وأسند لله تكوين الحياة فيه . والهيئة : الصورة والكيفية أي أصور من الطين صورة كصورة الطير . وقرأ الجميع " كهيئة " بتحتية ساكنة بعدها همزة مفتوحة .
وزاد قوله بإذن الله لإظهار العبودية ، ونفي توهم المشاركة في خلق الكائنات . والأكمه : الأعمى ، أو الذي ولد أعمى .
والأبرص : المصاب بداء البرص وهو داء جلدي له مظاهر متنوعة منها الخفيف ومنها القوي وأعراضه بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد ، فإن كانت غائرة في الجلد فهو البرص ، وإن كانت مساوية لسطح الجلد فهو البهق ، ثم تنتشر على الجلد فربما عمت الجلد كله حتى يصير أبيض ، وربما بقيت متميزة عن لون الجلد .
وأسبابه مجهولة ، ويأتي بالوراثة ، وهو غير معد ، وشوهد أن الإصابة به تكثر في الذين يقللون من النظافة أو يسكنون الأماكن القذرة . والعبرانيون واليونان يطلقون البرص على مرض آخر هو من مبادئ الجذام فكانوا يتشاءمون بالبرص إذا بدت أعراضه على واحد منهم . فأما العرب فكان ملوكهم لا يكلمون الأبرص إلا من وراء حجاب ، كما وقع في قصة الحارث بن حلزة الشاعر مع الملك عمرو بن هند . وأما العبرانيون فهم أشد في ذلك . وقد اهتمت التوراة بأحكام الأبرص ، وأطالت في بيانها ، وكررته مرارا ، ويظهر منها أنه مرض ينزل في الهواء ويلتصق بجدران المنازل ، وقد وصفه الوحي لموسى ليعلمه الكهنة من بني إسرائيل ويعلمهم طريقة علاجه ، ومن أحكامهم أن المصاب يعزل عن القوم ويجعل في محل خاص وأحكامه مفصلة في سفر اللاويين . ولهذا كان إعجاز المسيح بإبراء الأبرص أهم المعجزات فائدة عندهم دينا ودنيا .
وقد ذكر فقهاء الإسلام وفصلوا بين أنواعه التي توجب الخيار والتي لا توجبه ولم يضبطوا أوصافه واقتصروا على تحديد أجل برئه . البرص في عيوب الزوجين الموجبة للخيار
[ ص: 252 ] أيضا ، كنفخ الروح في الطير المصور من الطين ، فكان إذا أحيا ميتا كلمه ثم رجع ميتا ، وورد في الأناجيل أنه أحيا بنتا كانت ماتت فأحياها عقب موتها . ووقع في إنجيل وإحياء الموتى معجزة للمسيح متى في الإصحاح 17 أن عيسى صعد الجبل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا أخوه وأظهر لهم موسى وإيلياء يتكلمان معهم ، وكل ذلك بإذن الله له أن يفعل ذلك .
ومعنى قوله : وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم أنه يخبرهم عن أحوالهم التي لا يطلع عليها أحد ، فيخبرهم بما أكلوه في بيوتهم ، وما عندهم مدخر فيها ، لتكون هاته المتعاطفات كلها من قبيل المعجزات بقرينة قوله " أنبئكم " لأن الإنباء يكون في الأمور الخفية .
وقوله : إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين جعل هذه الأشياء كلها آيات تدعو إلى الإيمان به ، أي إن كنتم تريدون الإيمان ، بخلاف ما إذا كان دأبكم المكابرة . والخطاب موجه منه إلى بني إسرائيل فإنهم بادروا دعوته بالتكذيب والشتم .
وتعرض القرآن لذكر هذه المعجزات تعريض بالنصارى الذين جعلوا منها دليلا على عيسى ، بعلة أن هذه الأعمال لا تدخل تحت مقدرة البشر ، فمن قدر عليها فهو الإله ، وهذا دليل سفسطائي أشار الله إلى كشفه بقوله : بآية من ربكم ، وقوله : بإذن الله ، مرتين . وقد روى أهل السير أن نصارى ألوهية نجران استدلوا بهذه الأعمال لدى النبيء - صلى الله عليه وسلم - .