عطف على جملة إذ قالت امرأة عمران . انتقال من ذكر أم مريم إلى ذكر مريم .
( ومريم ) علم عبراني ، وهو في العبرانية بكسر الميم ، وهو اسم قديم سميت به أخت موسى عليه السلام . وليس في كتب النصارى ذكر لاسم أبي مريم أم عيسى ولا لمولدها ولكنها تبتدئ فجأة بأن عذراء في بلد الناصرة مخطوبة ليوسف النجار ، قد حملت من غير زوج .
[ ص: 244 ] والعرب يطلقون اسم مريم على المرأة المترجلة التي تكثر مجالسة الرجال كما قال رؤبة :
قلت لزير لم تصله مريمه
.والزير : بكسر الزاي الذي يكثر زيارة النساء . وقال في الكشاف : مريم في لغتهم أي لغة العبرانيين بمعنى العابدة .
وتكرر فعل ( اصطفاك ) لأن الاصطفاء الأول ذاتي ، وهو جعلها منزهة زكية ، والثاني بمعنى التفضيل على الغير ، فلذلك لم يعد الأول إلى متعلق ، وعدي الثاني . ونساء العالمين نساء زمانها ، أو نساء سائر الأزمنة . وتكليم الملائكة والاصطفاء يدلان على نبوءتها والنبوءة تكون للنساء دون الرسالة .
وإعادة النداء في قول الملائكة يا مريم اقنتي لقصد الإعجاب بحالها ، لأن النداء الأول كفى في تحصيل المقصود من إقبالها لسماع كلام الملائكة ، فكان النداء الثاني مستعملا في مجرد التنبيه الذي ينتقل منه إلى لازمه وهو التنويه بهذه الحالة والإعجاب بها ، ونظيره قول امرئ القيس :
تقول وقد مال الغبيط بـنـا مـعـا عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
والقنوت ملازمة العبادة ، وتقدم عند قوله تعالى : وقوموا لله قانتين في سورة البقرة .
وقدم السجود ، لأنه أدخل في الشكر والمقام هنا مقام شكر .
وقوله مع الراكعين إذن لها بالصلاة مع الجماعة ، وهذه خصوصية لها من بين نساء إسرائيل إظهار لمعنى ارتفاعها عن بقية النساء ، ولذلك جيء في الراكعين بعلامة جمع التذكير .
وهذا الخطاب مقدمة للخطاب الذي بعده وهو يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه لقصد تأنيسها بالخبر الموالي لأنه لما كان حاصله يجلب لها حزنا وسوء قالة بين الناس ، مهد له بما يجلب إليها مسرة ، ويوقنها بأنها بمحل عناية الله ، فلا جرم أن تعلم بأن الله جاعل لها مخرجا وأنه لا يخزيها .
[ ص: 245 ] وقوله : وما كنت لديهم إيماء إلى خلو كتبهم عن بعض ذلك ، وإلا لقال : وما كنت تتلو كتبهم مثل وما كنت تتلو من قبله من كتاب أي إنك تخبرهم عن أحوالهم كأنك كنت لديهم .
وقوله : إذ يلقون أقلامهم وهي الأقلام التي يكتبون بها التوراة كانوا يقترعون بها في المشكلات : بأن يكتبوا عليها أسماء المقترعين أو أسماء الأشياء المقترع عليها ، والناس يصيرون إلى القرعة عند انعدام ما يرجح الحق ، فكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام وجعل اليهود الاقتراع بالأقلام التي يكتبون بها التوراة في المدراس رجاء أن تكون بركتها مرشدة إلى ما هو الخير . وليس هذا من شعار الإسلام وليس لإعمال القرعة في الإسلام إلا مواضع تمييز الحقوق المتساوية من كل الجهات وتفصيله في الفقه . وأشارت الآية إلى أنهم تنازعوا في كفالة مريم حين ولدتها أمها حنة ، إذ كانت يتيمة كما تقدم فحصل من هذا الامتنان إعلام بأن كفالة زكرياء مريم كانت بعد الاستقسام وفيه تنبيه على تنافسهم في كفالتها .