ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر لما كانت هذه النذارة بلغت بالقرآن والمشركون معرضون عن استماعه حارمين أنفسهم من فوائده ذيل خبرها بتنويه شأن القرآن بأنه من عند الله وأن الله يسره [ ص: 188 ] وسهله لتذكر الخلق بما يحتاجونه من التذكير مما هو هدى وإرشاد . وهذا التيسير ينبئ بعناية الله به مثل قوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون تبصرة للمسلمين ليزدادوا إقبالا على مدارسته وتعريضا بالمشركين عسى أن يرعووا عن صدودهم عنه كما أنبأ عنه قوله فهل من مدكر .
وتأكيد الخبر باللام وحرف التحقيق مراعى فيه حال المشركين الشاكين في أنه من عند الله .
والتيسير : إيجاد اليسر في شيء ، من فعل كقوله يريد الله بكم اليسر أو قول كقوله تعالى فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون .
واليسر : السهولة ، وعدم الكلفة في تحصيل المطلوب من شيء . وإذ كان القرآن كلاما فمعنى تيسيره يرجع إلى تيسير ما يراد من الكلام وهو فهم السامع المعاني التي عناها المتكلم به دون كلفة على السامع ولا إغلاق كما يقولون : يدخل للأذن بلا إذن . وهذا اليسر يحصل من جانب الألفاظ وجانب المعاني ; فأما من جانب الألفاظ فذلك بكونها في أعلى درجات فصاحة الكلمات وفصاحة التراكيب ، أي فصاحة الكلام ، وانتظام مجموعها ، بحيث يخف حفظها على الألسنة .
وأما من جانب المعاني فبوضوح انتزاعها من التراكيب ووفرة ما تحتوي عليه التراكيب منها من مغازي الغرض المسوقة هي له . وبتولد معان من معان أخر كلما كرر المتدبر تدبره في فهمها .
ووسائل ذلك لا يحيط بها الوصف وقد تقدم بسطها في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير ومن أهمها إيجاز اللفظ ليسرع تعلقه بالحفظ ، وإجمال المدلولات لتذهب نفوس السامعين في انتزاع المعاني منها كل مذهب يسمح به اللفظ والغرض والمقام ، ومنها الإطناب بالبيان إذا كان في المعاني بعض الدقة والخفاء .
ويتأتى ذلك بتأليف نظم القرآن بلغة هي أفصح لغات البشر وأسمح ألفاظا [ ص: 189 ] وتراكيب بوفرة المعاني وبكون تراكيبه أقصى ما تسمح به تلك اللغة ، فهو خيار من خيار من خيار . قال تعالى بلسان عربي مبين .
ثم يكون المتلقون له أمة هي أذكى الأمم عقولا وأسرعها أفهاما وأشدها وعيا لما تسمعه ، وأطولها تذكرا له . دون نسيان ، وهي على تفاوتهم في هذه الخلال تفاوتا اقتضته سنة الكون لا يناكد حالهم في هذا التفاوت ما أراده الله من تيسيره للذكر ، لأن الذكر جنس من الأجناس المقول عليها بالتشكيك إلا أنه إذا اجتمع أصحاب الأفهام على مدارسته وتدبره بدت لمجموعهم معان لا يحصيها الواحد منهم وحده .
وقد تصريحا كقوله فرض الله على علماء القرآن تبيينه لتبين للناس ما نزل إليهم ، وتعريضا كقوله وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس فإن هذه الأمة أجدر بهذا الميثاق .
وفي الحديث . ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده
واللام في قوله للذكر متعلقة بيسرنا وهي ظرف لغو غير مستقر ، وهي لام تدل على أن الفعل تعلقت به فعل لانتفاع مدخول هذه اللام به فمدخولها لا يراد منه مجرد تعليل فعل الفاعل كما هو معنى التعليل المجرد ومعنى المفعول لأجله المنتصب بإضمار لام التعليل البسيطة ، ولكن يراد أن مدخول هذه اللام علة خاصة مراعاة في تحصيل فعل الفاعل لفائدته ، فلا يصح أن يقع مدخول هذه اللام مفعولا ، لأن المفعول لأجله علة بالمعنى الأعم ومدخول هذه اللام علة خاصة فالمفعول لأجله بمنزلة سبب الفعل وهو كمدخول باء السببية في نحو فكلا أخذنا بذنبه ، ومجرور هذه اللام بمنزلة مجرور باء الملابسة في نحو تنبت بالدهن ، وهو أيضا شديد الشبه بالمفعول الأول في باب كسا وأعطى ، فهذه اللام من القسم الذي سماه ابن هشام في مغني اللبيب : شبه التمليك . وتبع في ذلك ابن مالك في شرح التسهيل .
[ ص: 190 ] وأحسن من ذلك تسمية ابن مالك إياه في شرح كافيته وفي الخلاصة معنى التعدية . ولقد أجاد في ذلك لأن مدخول هذا اللام قد تعدى إليه الفعل الذي تعلقت به اللام تعدية مثل تعدية الفعل المتعدي إلى المفعول ، وغفل ابن هشام عن هذا التدقيق ، وهو المعنى الخامس من معاني اللام الجارة في مغنى اللبيب وقد مثله بقوله تعالى جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، ومثل له ابن مالك في شرح التسهيل بقوله تعالى فهب لي من لدنك وليا ، ومن الأمثلة التي تصلح له قوله تعالى وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون وقوله تعالى ونيسرك لليسرى وقوله فسنيسره لليسرى وقوله فسنيسره للعسرى ، ألا ترى أن مدخول اللام في هذه الأمثلة دال على المتنفعين بمفاعيل أفعالها فهم مثل أول المفعولين من باب كسا .
وإنما بسطنا القول في هذه اللام لدقة معناها وليتضح معنى قوله تعالى ولقد يسرنا القرآن للذكر .
وأصل معاني لام الجر هو التعليل وتنشأ من استعمال اللام في التعليل المجازي معان شاعت فساوت الحقيقة ، فجعلها النحويون معاني مستقلة لقصد الإيضاح .
والذكر : مصدر ذكر الذي هو التذكر العقلي لا اللساني ، والذي يرادفه الذكر بضم الذال اسما للمصدر ، فالذكر هو تذكر ما في تذكره نفع ودفع ضر ، وهو الاتعاظ والاعتبار .
فصار معنى يسرنا القرآن للذكر أن القرآن سهلت دلالته لأجل انتفاع الذكر بذلك التيسير ، فجعلت سرعة ترتيب التذكر على سماع القرآن بمنزلة منفعة للذكر لأنه يشيع ويروج بها كما ينتفع طالب شيء إذا يسرت له وسائل تحصيله ، وقربت له أباعدها . ففي قوله يسرنا القرآن للذكر استعارة مكنية ولفظ يسرنا تخييل . ويؤول المعنى إلى : يسرنا القرآن للمتذكرين .
وفرع على هذا المعنى قوله فهل من مدكر . والقول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا ، إلا أن بين الادكارين فرقا دقيقا ، فالادكار السالف ادكار اعتبار عن مشاهدة آثار الأمة البائدة ، والادكار هنا ادكار عن سماع مواعظ القرآن البالغة وفهم معانيه والاهتداء به .