انتقال من واجبات المعاملات إلى ما يجب أن يراعيه المرء في نفسه ، وأعيد النداء للاهتمام بهذا الغرض ، إذ كان إعجاب كل قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشيا في الجاهلية كما ترى بقيته في شعر الفرزدق وجرير ، وكانوا يحقرون بعض القبائل مثل باهلة ، وضبيعة ، وبني عكل .
سئل أعرابي : أتحب أن تدخل الجنة وأنت باهلي فأطرق حينا ثم قال : على شرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي . فكان ذلك يجر إلى الإحن والتقاتل وتتفرع عليه السخرية واللمز والنبز والظن والتجسس والاغتياب الواردة فيها الآيات السابقة ، فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود إذ كثر الداخلون في الإسلام .
فعن أبي داود أنه روى في كتابه المراسيل عن قال الزهري بني بياضة من الأنصار أن يزوجوا أبا هند ( مولى بني بياضة قيل اسمه يسار ) امرأة منهم فقالوا : تزوج بناتنا موالينا ، فأنزل الله تعالى : إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا الآية . وروي غير ذلك في سبب نزولها . أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونودوا بعنوان الناس دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صدر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد ، أي أنهم في الخلقة سواء ليتوسل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل وإلى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى فقيل : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى .
فمن أقدم على القول بأن هذه الآية نزلت في مكة دون بقية السورة اغتر بأن غالب الخطاب بـ يا أيها الناس إنما كان في المكي .
والمراد بالذكر والأنثى : آدم وحواء أبوا البشر ، بقرينة قوله وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا .
[ ص: 259 ] ويؤيد هذا قول النبيء صلى الله عليه وسلم : وآدم من تراب كما سيأتي قريبا . فيكون تنوين أنتم بنو آدم ذكر وأنثى لأنهما وصفان لموصوف فقرر ، أي من أب ذكر ومن أم أنثى .
ويجوز أن يراد بـ " ذكر وأنثى " صنف الذكر والأنثى ، أي كل واحد مكون من صنف الذكر والأنثى .
وحرف ( من ) على كلا الاحتمالين للابتداء .
والشعوب : جمع شعب بفتح الشين وهو مجمع القبائل التي ترجع إلى جد واحد من أمة مخصوصة وقد يسمى جذما ، فالأمة العربية تنقسم إلى شعوب كثيرة فمضر شعب ، وربيعة شعب ، وأنمار شعب ، وإياد شعب ، وتجمعها الأمة العربية المستعربة ، وهي عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام ، وحمير وسبأ ، والأزد شعوب من أمة قحطان . وكنانة وقيس وتميم قبائل من شعب مضر . ومذحج ، وكندة قبيلتان من شعب سبأ . والأوس والخزرج قبيلتان من شعب الأزد .
وتحت القبيلة العمارة مثل قريش من كنانة ، وتحت العمارة البطن مثل قصي من قريش ، وتحت البطن الفخذ مثل هاشم وأمية من قصي ، وتحت الفخذ الفصيلة مثل أبي طالب والعباس وأبي سفيان .
واقتصر على ذكر الشعوب والقبائل لأن ما تحتها داخل بطريق لحن الخطاب .
وتجاوز القرآن عن ذكر الأمم جريا على المتداول في كلام العرب في تقسيم طبقات الأنساب إذ لا يدركون إلا أنسابهم .
وجعلت علة جعل الله إياه شعوبا وقبائل . وحكمته من هذا الجعل أن يتعارف الناس ، أي يعرف بعضهم بعضا .
والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجا إلى الأعلى ، فالعائلة الواحدة متعارفون ، والعشيرة متعارفون من عائلات إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة ، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون والبطون مع العمائر ، والعمائر مع القبائل ، والقبائل مع الشعوب لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها .
[ ص: 260 ] فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاما محكما لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل ثم بينه وبين جماعات أكثر . وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم .
والمقصود : أنكم حرفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل بسبب تناكر وتطاحن وعدوان .
ألا ترى إلى قول الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب :
مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم
وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
وقول وحاربه بنو عمه فقتل منهم : العقيلي
ونبكي حين نقتلكم عليكم ونقتلكم كأنا لا نبالي
وقول الشميذر الحارثي :
وقد ساءني ما جرت الحرب بيننا بني عمنا لو كان أمرا مدانيا
وأقوالهم في هذا لا تحصر عدا ما دون ذلك من التفاخر والتطاول والسخرية واللمز والنبز وسوء الظن والغيبة مما سبق ذكره .
وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام كما قال تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة .
ولما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكونوا إخوة وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يغين على نورها في نفوسهم من السخرية واللمز والتنابز والظن السوء والتجسس والغيبة ، ذكرهم بأصل الأخوة في الأنساب التي أكدتها أخوة الإسلام ووحدة الاعتقاد ليكون ذلك التذكير عونا على تبصرهم في حالهم ، [ ص: 261 ] ولما كانت السخرية واللمز والتنابز مما يحمل عليه التنافس بين الأفراد والقبائل جمع الله ذلك كله في هذه الموعظة الحكيمة التي تدل على النداء عليهم بأنهم عمدوا إلى هذا التشعيب الذي وضعته الحكمة الإلهية فاستعملوه في فاسد لوازمه وأهملوا صالح ما جعل له بقوله : " لتعارفوا " ثم وأتبعه بقوله : إن أكرمكم عند الله أتقاكم أي فإن تنافستم فتنافسوا في التقوى كما قال تعالى : وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
والخبر في قوله : إنا خلقناكم من ذكر وأنثى مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني ليتوصل من ذلك إلى إرادة اكتساب الفضائل والمزايا التي ترفع بعض الناس على بعض كناية بمرتبتين . والمعنى المقصود من ذلك هو مضمون جملة إن أكرمكم عند الله أتقاكم فتلك الجملة تتنزل من جملة إنا خلقناكم من ذكر وأنثى منزلة المقصد من المقدمة والنتيجة من القياس ولذلك فصلت لأنها بمنزلة البيان .
وأما جملة وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا فهي معترضة بين الجملتين الأخريين .
والمقصود من اعتراضها : إدماج تأديب آخر من واجب بث التعارف والتواصل بين القبائل والأمم وأن ذلك مراد الله منهم .
ومن معنى الآية ما خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إذ قال : . يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وأن أباكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى
ومن نمط نظم الآية وتبيينها ما رواه الترمذي في تفسير هذه الآية قول النبيء صلى الله عليه وسلم : وآدم من تراب " . وفي رواية أن ذلك مما خطب به يوم فتح " إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها لا لآباء الناس مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم مكة ( عبية بضم العين المهملة وبكسرها وبتشديد الموحدة المكسورة ثم تشديد المثناة التحتية : الكبر والفخر . ووزنهما على لغة ضم الفاء فعولة وعلى لغة كسر الفاء فعلية ، وهي إما مشتقة من التعبية فتضعيف الباء لمجرد [ ص: 262 ] الإلحاق مثل : نض الثوب بمعنى نضى أو مشتقة من عباب الماء فالتضعيف في الباء أصلي .
وفي رواية بسنده إلى ابن أبي حاتم ابن عمر طاف رسول الله يوم فتح مكة ثم خطبهم في بطن المسيل فذكر الحديث وزاد فيه أن الله يقول : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى إلى إن الله عليم خبير .
وجملة إن أكرمكم عند الله أتقاكم مستأنفة استئنافا ابتدائيا وإنما أخرت في النظم عن جملة : " إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " ، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة لأنهم لما تساووا في أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة كان الشأن أن لا يفضل بعضهم بعضا إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته ولذلك ناط التفاضل في الكرم بـ " عند الله " إذ لا اعتداد بكرم لا يعبأ الله به .
والمراد بالأكرم : الأنفس والأشرف ، كما تقدم بيانه في قوله : إني ألقي إلي كتاب كريم في سورة النمل .
والأتقى : الأفضل في التقوى وهو اسم تفضيل صيغ من اتقى على غير قياس .
وجملة إن الله عليم خبير تعليل لمضمون إن أكرمكم عند الله أتقاكم أي إنما كان أكرمكم أتقاكم لأن الله عليم بالكرامة الحق وأنتم جعلتم المكارم فيما دون ذلك من البطش وإفناء الأموال في غير وجه وغير ذلك الكرامة التي هي التقوى خبير بمقدار حظوظ الناس من التقوى فهي عنده حظوظ الكرامة ، فلذلك الأكرم هو الأتقى ، وهذا كقوله : فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى أي هو أعلم بمراتبكم في التقوى ، أي التي هي التزكية الحق . ومن هذا الباب قوله ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) .
علم أن قوله إن أكرمكم عند الله أتقاكم لا ينافي أن تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مما شأنه أن يكون له أثر تزكية في النفوس مثل حسن التربية ونقاء النسب والعراقة في العلم والحضارة وحسن السمعة في الأمم وفي [ ص: 263 ] الفصائل ، وفي العائلات ، وكذلك بحسب ما خلده التاريخ الصادق للأمم والأفراد فما يترك آثارا لأفرادها وخلالا في سلائلها قال النبيء صلى الله عليه وسلم : . الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا
فإن في خلق الأبناء آثارا من طباع الآباء الأدنين أو الأعلين تكون مهيئة نفوسهم للكمال أو ضده وأن للتهذيب والتربية آثارا جمة في تكميل النفوس أو تقصيرها وللعوائد والتقاليد آثارها في الرفعة والضعة ، وكل هذه وسائل لإعداد النفوس إلى الكمال والزكاء الحقيقي الذي تخططه التقوى .
وجملة إن الله عليم خبير تذييل ، وهو كناية عن الأمر بتزكية نواياهم في معاملاتهم وما يريدون من التقوى بأن الله يعلم ما في نفوسهم ويحاسبهم عليه .