متفرع على جميع ما تقدم من أحكام الدين : أي إن أمن كل من المتداينين الآخر ، أي : وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن ، فالبعض المرفوع هو الدائن ، والبعض المنصوب هو المدين وهو الذي اؤتمن .
والأمانة مصدر آمنه : إذا جعله آمنا ، والأمن اطمئنان النفس وسلامتها مما تخافه ، وأطلقت الأمانة على الشيء المؤمن عليه ، من إطلاق المصدر على المفعول ، وإضافة ( أمانته ) تشبه إضافة المصدر إلى مفعوله ، وسيجيء ذكر الأمانة بمعنى صفة الأمين عند قوله تعالى : وأنا لكم ناصح أمين في سورة الأعراف .
وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدين في الذمة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأن اسم الأمانات له مهابة في النفوس ، فذلك تحذير من عدم الوفاء به ; لأنه لما سمي أمانة فعدم أدائه ينعكس خيانة ; لأنها ضدها ، وفي الحديث : . أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك
[ ص: 123 ] والأداء : الدفع والتوفية ، ورد الشيء أو رد مثله فيما لا تقصد أعيانه ، ومنه أداء الأمانة وأداء الدين أي عدم جحده . قال تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها والمعنى : إذا ظننتم أنكم في غنية عن التوثق في ديونكم بأنكم أمناء عند بعضكم ، فأعطوا الأمانة حقها .
وقد علمت مما تقدم عند قوله تعالى : ( فاكتبوه ) أن آية فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته تعتبر تكميلا لطلب الكتابة ، والإشهاد طلب ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى " فاكتبوه " على معنى الندب والاستحباب ، وهم الجمهور ، ومعنى كونه تكميلا لذلك الطلب أنها بينت أن الكتابة والإشهاد بين المتداينين ، مقصود بها حسن التعامل بينهما ، فإن بدا لهما أن يأخذا بهما فنعما ، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أمان بينهما فلهما تركهما .
وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤديا الأمانة ويتقيا الله .
وتقدم أيضا أن الذين قالوا بأن الكتابة والإشهاد على الديون كان واجبا ثم نسخ وجوبه ، ادعوا أن ناسخه هو قوله تعالى : فإن أمن بعضكم بعضا الآية ، وهو قول ، الشعبي ، وابن جريج ، وجابر بن زيد والربيع بن سليمان ، ونسب إلى . أبي سعيد الخدري
ومحمل قولهم وقول أبي سعيد - إن صح ذلك عنه - أنهم عنوا بالنسخ تخصيص عموم الأحوال والأزمنة ، وتسمية مثل ذلك نسخا تسمية قديمة .
أما الذين يرون وجوب الكتابة والإشهاد بالديون حكما محكما ، ومنهم فقصروا آية الطبري فإن أمن بعضكم بعضا الآية . على كونها تكملة لصورة الرهن في السفر خاصة ، كما صرح به ولم يأت بكلام واضح في ذلك ، ولكنه جمجم الكلام وطواه . الطبري
ولو أنهم قالوا : إن هذه الآية تعني حالة تعذر وجود الرهن في حالة السفر ، أي فلم يبق إلا أن يأمن بعضكم بعضا فالتقدير : فإن لم تجدوا رهنا وأمن بعضكم بعضا إلى [ ص: 124 ] آخره - لكان له وجه ، ويفهم منه أنه إن لم يأمنه لا يداينه ، ولكن طوي هذا ترغيبا للناس في المواساة والاتسام بالأمانة ، وهؤلاء الفرق الثلاثة كلهم يجعلون هذه الآية مقصورة على بيان حالة ترك التوثيق في الديون .
وأظهر مما قالوه عندي : أن هذه الآية تشريع مستقل يعم جميع الأحوال المتعلقة بالديون من إشهاد ورهن ووفاء بالدين ، والمتعلقة بالتبايع ، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة " بعض " ليشمل الائتمان من كلا الجانبين : الذي من قبل رب الدين والذي من قبل المدين .
فرب الدين يأتمن المدين إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد ، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر .
والمدين يأتمن الدائن إذا سلم له رهنا أغلى ثمنا بكثير من قيمة الدين المرتهن فيه ، والغالب أن الرهان تكون أوفر قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها ، فأمر كل جانب مؤتمن أن يؤدي أمانته ، فأداء المدين أمانته بدفع الدين دون مطل ولا جحود ، وأداء الدائن أمانته إذا أعطي رهنا متجاوز القيمة على الدين أن يرد الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدين ; لأن الرهن أوفر منه ولا ينقص شيئا من الرهن .
ولفظ الأمانة مستعمل في معنيين : معنى الصفة التي يتصف بها الأمين ، ومعنى الشيء المؤمن .
فيؤخذ من هذا التفسير إبطال : وهو أن يصير الشيء المرهون ملكا لرب الدين ، إذا لم يدفع الدين عند الأجل ، قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - غلق الرهن وقد كان غلق الرهن من أعمال أهل الجاهلية ، قال لا يغلق الرهن زهير :
وفارقتك برهن لا فكاك له عند الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
ومعنى : أمن بعضكم بعضا أن يقول كلا المتعاملين للآخر : لا حاجة لنا بالإشهاد ونحن يأمن بعضنا بعضا ، وذلك كي لا ينتقض المقصد الذي أشرنا إليه فيما مضى من دفع مظنة اتهام أحد المتداينين الآخر .[ ص: 125 ] وزيد في التحذير بقوله : وليتق الله ربه وذكر اسم الجلالة فيه مع إمكان الاستغناء بقوله : وليتق ربه ، لإدخال الروع في ضمير السامع وتربية المهابة .
وقوله : الذي اؤتمن وقع فيه ياء هي المدة في آخر ( الذي ) ووقع بعده همزتان أولاهما وصلية وهي همزة الافتعال ، والثانية قطعية أصلية ، فقرأه الجمهور بكسر ذال الذي وبهمزة ساكنة بعد كسرة الذال ; لأن همزة الوصل سقطت في الدرج فبقيت الهمزة على سكونها ; إذ الداعي لقلب الهمزة الثانية مدا قد زال ، وهو الهمزة الأولى ، ففي هذه القراءة تصحيح للهمزة ; إذ لا داعي للإعلال .
وقرأه عن ورش نافع ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : " الذيتمن " بياء بعد ذال " الذي " ثم فوقية مضمومة ؛ اعتبارا بأن الهمزة الأصلية قد انقلبت واوا بعد همزة الافتعال الوصلية ; لأن الشأن ضم همزة الوصل مجانسة لحركة تاء الافتعال عند البناء للمجهول ، فلما حذفت همزة الوصل في الدرج بقيت الهمزة الثانية واوا بعد كسر ذال " الذي " فقلبت الواو ياء . ففي هذه القراءة قلبان .
وقرأه أبو بكر عن عاصم : " الذي اوتمن " بقلب الهمزة واوا تبعا للضمة مشيرا بها إلى الهمزة .
وهذا الاختلاف راجع إلى وجه الأداء ، فلا مخالفة فيه لرسم المصحف .