هذا الانتقال من الاستدلال والامتنان بخلق وسائل الحياة إلى الاستدلال بخلق وسائل الاكتساب لصلاح المعاش ، وذكر منها وسائل الإنتاج وأتبعها بوسائل الاكتساب بالأسفار للتجارة .
وإعادة اسم الموصول لما تقدم في نظيره آنفا .
والأزواج : جمع زوج ، وهو كل ما يصير به الواحد ثانيا ، فيطلق على كل منهما أنه زوج للآخر مثل الشفع . وغلب الزوج على الذكر وأنثاه من الحيوان ، ومنه ثمانية أزواج في سورة الأنعام ، وتوسع فيه فأطلق الزوج على الصنف ومنه قوله : ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين . وكلا الإطلاقين يصح أن يراد هنا ، وفي أزواج الأنعام منافع بألبانها وأصوافها وأشعارها ولحومها ونتاجها .
ولما كان المتبادر من الأزواج بادئ النظر أزواج الأنعام وكان من أهمها عندهم الرواحل - عطف عليها ما هو منها وسائل للتنقل برا وأدمج معها وسائل السفر بحرا .
فقال : وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون فالمراد بـ ( ما تركبون ) بالنسبة إلى الأنعام هو الإبل لأنها وسيلة الأسفار قال تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذرياتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وقد قالوا : الإبل سفائن البر .
[ ص: 173 ] وجيء بفعل ( جعل ) مراعاة لأن الفلك مصنوعة وليست مخلوقة ، والأنعام قد عرف أنها مخلوقة لشمول قوله : ( خلق الأزواج ) إياها . ومعنى جعل الله الفلك والأنعام مركوبة : أنه خلق في الإنسان قوة التفكير التي ينساق بها إلى استعمال الموجودات في نفعه فاحتال كيف يصنع الفلك ويركب فيها واحتال كيف يروض الأنعام ويركبها .
وقدم الفلك على الأنعام لأنها لم يشملها لفظ الأزواج فذكرها ذكر نعمة أخرى ولو ذكر الأنعام لكان ذكره عقب الأزواج بمنزلة الإعادة . فلما ذكر الفلك بعنوان كونها مركوبا عطف عليها الأنعام فصار ذكر الأنعام مترقبا للنفس لمناسبة جديدة ، وهذا كقول امرئ القيس :
كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال ولم أسبأ الراح الكميت ولم أقل
لخيلي كري كرة بعد إجفال
إذ أعقب ذكر ركوب الجواد بذكر تبطن الكاعب للمناسبة ، ولم يعقبه بقوله : ولم أقل لخيلي كري كرة ، ؛ لاختلاف حال الركوبين : ركوب اللذة وركوب الحرب .
والركوب حقيقته : اعتلاء الدابة للسير ، وأطلق على الحصول في الفلك لتشبيههم الفلك بالدابة بجامع السير ، فركوب الدابة يتعدى بنفسه وركوب الفلك يتعدى بـ ( في ) للفرق بين الأصيل واللاحق ، وتقدم عند قوله تعالى : وقال اركبوا فيها في سورة هود .
و من الفلك والأنعام بيان لإبهام ( ما ) الموصولة في قوله ما تركبون . وحذف عائد الصلة لأنه متصل منصوب ، وحذف مثله كثير في الكلام . وإذ قد كان مفعول تركبون هنا مبينا بالفلك والأنعام كان حق الفعل أن يعدى إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر بـ ( في ) فغلبت التعدية المباشرة على التعدية بواسطة الحرف لظهور المراد ، وحذف العائد بناء على ذلك التغليب .
واستعمال فعل تركبون هنا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه .
والاستواء : الاعتلاء . والظهور : جمع ظهر ، والظهر من علائق الأنعام لا من [ ص: 174 ] علائق الفلك ، فهذا أيضا من التغليب . والمعنى : على ظهوره وفي بطونه . فضمير ظهوره عائد إلى ( ما ) الموصولة الصادق بالفلك والأنعام كما هو قضية البيان .
على أن السفائن العظيمة تكون لها ظهور ، وهي أعاليها المجعولة كالسطوح لتقي الراكبين المطر وشدة الحر والقر . ولذلك فجمع الظهور من جمع المشترك ، والتعدية بحرف ( على ) بنيت على أن للسفينة ظهرا ، قال تعالى : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك .
وقد جعل قوله : لتستووا على ظهوره توطئة وتمهيدا للإشارة إلى ذكر نعمة الله في قوله : ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه أي حينئذ ، فإن ذكر النعمة في حال التلبس بمنافعها أوقع في النفس وأدعى للشكر عليها . وأجدر بعدم الذهول عنها ، أي جعل لكم ذلك نعمة لتشعروا بها فتشكروه عليها ، فالذكر هنا هو التذكر بالفكر لا الذكر باللسان .
وهذا تعريض بالمشركين إذ تقلبوا في نعم الله وشكروا غيره إذ اتخذوا له شركاء في الإلهية وهم لم يشاركوه في الأنعام .
وذكر النعمة كناية عن شكرها ؛ لأن شكر المنعم لازم للإنعام عرفا فلا يصرف عنه إلا نسيانه فإذا ذكره شكر النعمة .
وعطف على تذكروا نعمة ربكم قوله : وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا ، أي لتشكروا الله في نفوسكم وتعلنوا بالشكر بألسنتكم ، فلقنهم صيغة شكر عناية به كما لقنهم صيغة الحمد في سورة الفاتحة وصيغة الدعاء في آخر سورة البقرة .
وافتتح هذا الشكر اللساني بالتسبيح لأنه جامع للثناء إذ التسبيح تنزيه الله عما لا يليق ، فهو يدل على التنزيه عن النقائص بالصريح ويدل ضمنا على إثبات الكمالات لله في المقام الخطابي .
واستحضار الجلالة بطريق الموصولية لما يؤذن به الموصول من علة التسبيح حتى يصير الحمد الذي أفاده التسبيح شكرا لتعليله بأنه في مقابلة التسخير لنا .
[ ص: 175 ] واسم الإشارة موجه إلى المركوب - حينما يقول الراكب هذه المقالة - من دابة أو سفينة .
والتسخير : التذليل والتطويع . وتسخير الله الدواب هو خلقه إياها قابلة للترويض فاهمة لمراد الراكب ، وتسخير الفلك حاصل بمجموع خلق البحر صالحا لسبح السفن على مائه ، وخلق الرياح تهب فتدفع السفن على الماء ، وخلق حيلة الإنسان لصنع الفلك ، ورصد مهاب الرياح ، ووضع القلوع والمجاذيف ، ولولا ذلك لكانت قوة الإنسان دون أن تبلغ استخدام هذه الأشياء القوية .
ولهذا عقب بقوله : وما كنا له مقرنين أي مطيقين ، أي بمجرد القوة الجسدية ، أي لولا التسخير المذكور . فجملة وما كنا له مقرنين في موضع الحال من ضمير ( لنا ) أي سخرها لنا في حال ضعفنا بأن كان تسخيره قائما مقام القوة .
والمقرن المطيق ، يقال : أقرن : إذا أطاق ، قال عمرو بن معد يكرب :
لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا
وختم هذا الشكر والثناء بالاعتراف بأن مرجعنا إلى الله ، أي بعد الموت بالبعث للحساب والجزاء ، وهذا إدماج لتلقينهم الإقرار بالبعث . وفيه تعريض بسؤال إرجاع المسافر إلى أهله فإن الذي يقدر على إرجاع الأموات إلى الحياة بعد الموت يرجى لإرجاع المسافر سالما إلى أهله .
والانقلاب : الرجوع إلى المكان الذي يفارقه .
والجملة معطوفة على جملة التنزيه عطف الخبر على الإنشاء . وفي هذا تعريض بتوبيخ المشركين على كفران نعمة الله بالإشراك وبنسبة العجز عن الإحياء بعد الموت . لأن المعنى : وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون : لتشكروا بالقلب واللسان ، فلم تفعلوا ، ولملاحظة هذا المعنى أكد الخبر .
وفيه تعريض بالمؤمنين بأن يقولوا هذه المقالة كما شكروا لله ما سخر لهم من الفلك والأنعام .
[ ص: 176 ] وفيه إشارة إلى أن حق المؤمن أن يكون في أحواله كلها ملاحظا للحقائق العالية ناظرا لتقلبات الحياة نظر الحكماء الذين يستدلون ببسائط الأمور على عظيمها .