يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون .
قوله : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إفضاء إلى التشريع بعد أن قدم أمامه من الموعظة ما هيأ النفوس إليه ، فإن كان قوله : وأحل الله البيع وحرم الربا من كلام الذين قالوا إنما البيع مثل الربا فظاهر ، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد ، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود ، وما تقدم كله وصف لحال أهل الجاهلية ، وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم .
وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأن تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب ، ولأن ترك الربا من جملتها ، فهو كالأمر بطريق برهاني .
وذروا ما بقي من الربا الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا ، فهذا مقابل قوله ومعنى فله ما سلف فكان الذي سلف قبضه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأمورا بتركه .
[ ص: 94 ] قيل : نزلت هذه الآية خطابا لثقيف - أهل الطائف - إذ دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة وبعد حصار الطائف على صلح وقع بينهم وبين عتاب بن أسيد - الذي أولاه النبيء - صلى الله عليه وسلم - مكة بعد الفتح - بسبب أنهم كانت لهم معاملات بالربا مع قريش ، فاشترطت ثقيف قبل النزول على الإسلام أن كل ربا لهم على الناس يأخذونه ، وكل ربا عليهم فهو موضوع ، وقبل منه رسول الله شرطهم ، ثم أنزل الله تعالى هذه الآية خطابا لهم ، وكانوا حديثي عهد بإسلام ، فقالوا : لا يدي لنا بحرب الله ورسوله .
فقوله : إن كنتم مؤمنين معناه إن كنتم مؤمنين حقا ، فلا ينافي قوله : يا أيها الذين آمنوا إذ معناه : يا أيها الذين دخلوا في الإيمان ، واندفعت إشكالات عرضت .
وقوله : فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله يعني إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا ، فاعلموا أن الحرب عادت جذعة ، فهذا كقوله : " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء " وتنكير " حرب " لقصد تعظيم أمرها ، ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضا عنها بمن ، ونسبت إلى الله ، لأنها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد ، وإلى رسوله لأنه المبلغ والمباشر ، وهذا هو الظاهر ، فإذا صح ما ذكر في سبب نزولها فهو من تجويز الاجتهاد للنبيء - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام ، إذ قبل من ثقيف النزول على اقتضاء ما لهم من الربا عند أهل مكة ، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى : وذروا ما بقي من الربا فيحتمل أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - رأى الصلح مع ثقيف على دخولهم في الإسلام مع تمكينهم مما لهم قبل قريش من أموال الربا الثابتة في ذممهم قبل التحريم مصلحة ، إذ الشأن أن ما سبق التشريع لا ينقض كتقرير أنكحة المشركين ، فلم يقره الله على ذلك وأمر بالانكفاف عن قبض مال الربا بعد التحريم ولو كان العقد قبل التحريم ، ولذلك جعلهم على خيرة من أمرهم في الصلح الذي عقدوه .
[ ص: 95 ] ودلت الآية على أن مجرد العقد الفاسد لا يوجب فوات التدارك إلا بعد القبض ، ولذلك جاء قبلها " فله ما سلف " وجاء هنا وذروا ما بقي من الربا إلى قوله : وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم .
وهذه الآية أصل عظيم في البيوع الفاسدة تقتضي نقضها ، وانتقال الضمان بالقبض ، والفوات بانتقال الملك ، والرجوع بها إلى رءوس الأموال أو إلى القيم إن فاتت ، لأن القيمة بدل من رأس المال .
ورءوس الأموال : أصولها ، فهو من إطلاق الرأس على الأصل ، وفي الحديث . رأس الأمر الإسلام
لا تظلمون ولا تظلمون لا تأخذون مال الغير ولا يأخذ غيركم أموالكم . ومعنى :
وقرأ الجمهور ( فأذنوا بحرب ) - بهمزة وصل وفتح الذال - أمرا من : أذن . وقرأه حمزة وأبو بكر وخلف ( فآذنوا ) - بهمزة قطع بعدها ألف وبذال مكسورة - أمرا من : آذن بكذا : إذا أعلم به ، أي : فآذنوا أنفسكم ومن حولكم .