استئناف لبيان سوء عاقبة الربا في الدنيا بعد أن بينت عاقبته في الآخرة ، فهو استئناف بياني لتوقع سؤال من يسأل عن حال هؤلاء الذين لا ينتهون بموعظة الله ، وقوله : ويربي الصدقات استطراد لبيان عاقبة الصدقة في الدنيا أيضا ببيان أن المتصدق يفوز بالخير في الدارين كما باء المرابي بالشر فيهما ، فهذا وعد ووعيد دنيويان .
والمحق هو كالمحو : بمعنى إزالة الشيء ، ومنه محاق القمر ذهاب نوره ليلة السرار ، أنه يتلف ما حصل منه في الدنيا ، ويربي الصدقات أي يضاعف ثوابها لأن الصدقة لا تقبل الزيادة إلا بمعنى زيادة ثوابها ، وقد جاء نظيره في قوله في الحديث : ومعنى يمحق الله الربا ولما جعل المحق بالربا وجعل الإرباء بالصدقات كانت المقابلة مؤذنة بحذف مقابلين آخرين ، والمعنى : يمحق الله الربا ويعاقب عليه ، ويربي الصدقات ويبارك لصاحبها ، على طريقة الاحتباك . من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا تلقاها الرحمن بيمينه وكلتا يديه يمين فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه
وجملة : والله لا يحب كل كفار أثيم معترضة بين أحكام الربا ، ولما كان شأن الاعتراض ألا يخلو من مناسبة بينه وبين سياق الكلام ، كان الإخبار بأن الله لا يحب جميع الكافرين مؤذنا بأن الربا من شعار أهل الكفر ، وأنهم الذين استباحوه فقالوا إنما البيع مثل الربا ، فكان هذا تعريضا بأن المرابي متسم بخلال أهل الشرك .
ومفاد التركيب أن الله لا يحب أحدا من الكافرين الآثمين لأن ( كل ) من صيغ العموم ، فهي موضوعة لاستغراق أفراد ما تضاف إليه وليست موضوعة للدلالة على [ ص: 92 ] صبرة مجموعة ، ولذلك يقولون هي موضوعة للكل الجميعي ، وأما الكل المجموعي فلا تستعمل فيه ( كل ) إلا مجازا ، فإذا أضيفت ( كل ) إلى اسم استغرقت جميع أفراده ، سواء ذلك في الإثبات وفي النفي ، فإذا دخل النفي على ( كل ) كان المعنى عموم النفي لسائر الأفراد ; لأن النفي كيفية تعرض للجملة فالأصل فيه أن يبقى مدلول الجملة كما هو ، إلا أنه يتكيف بالسلب عوضا عن تكيفه بالإيجاب ، فإذا قلت كل الديار ما دخلته ، أو : لم أدخل كل دار ، أو : كل دار لم أدخل ، أفاد ذلك نفي دخولك أية دار من الديار ، كما أن مفاده في حالة الإثبات ثبوت دخولك كل دار ، ولذلك كان الرفع والنصب للفظ ( كل ) سواء في المعنى في قول أبي النجم :
قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع
كما قال : إنه لو نصب لكان أولى ، لأن النصب لا يفسد معنى ولا يخل بميزان ، ولا تخرج ( كل ) عن إفادة العموم إلا إذا استعملها المتكلم في خبر يريد به إبطال خبر وقعت فيه ( كل ) صريحا أو تقديرا ، كأن يقول أحد : كل الفقهاء يحرم أكل لحوم السباع . فتقول له : ما كل العلماء يحرم لحوم السباع ، فأنت تريد إبطال الكلية فيبقى البعض ، وكذلك في رد الاعتقادات المخطئة كقول المثل ما كل بيضاء شحمة ، فإنه لرد اعتقاد ذلك كما قال سيبويه زفر بن الحارث الكلابي :وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة وقد نظر الشيخ إلى هذا الاستعمال الأخير فطرده في استعمال ( كل ) إذا وقعت في حيز النفي بعد أداة النفي وأطال في بيان ذلك في كتابه دلائل الإعجاز ، وزعم أن رجز عبد القاهر الجرجاني أبي النجم يتغير معناه باختلاف رفع ( كل ) ونصبه في قوله : كله لم أصنع . وقد تعقبه العلامة التفتازاني تعقبا مجملا بأن ما قاله أغلبي ، وأنه قد تخلف في مواضع ، وقفيت أنا على أثر التفتازاني فبينت في تعليقي " الإيجاز على دلائل الإعجاز " أن الغالب هو العكس وحاصله ما ذكرت هنا .