عطف على جملة " ويوم نحشر أعداء الله " ، وذلك أنه حكي قولهم المقتضي إعراضهم عن التدبر في دعوة الإيمان ثم ذكر كفرهم بخالق الأكوان بقوله " قل أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين " .
ثم ذكر مصيرهم في الآخرة بقوله : " ويوم نحشر أعداء الله " ، ثم عقب ذلك بذكر سبب ضلالهم الذي نشأت عنه أحوالهم بقوله وقيضنا لهم قرناء ، وتخلل بين ما هنالك وما هنا أفانين من المواعظ والدلائل والمنن والتعاليم والقوارع والإيقاظ .
وقيض : أتاح وهيأ شيئا للعمل في شيء . والقرناء جمع : قرين ، وهو الصاحب الملازم ، والقرناء هنا : هم الملازمون لهم في الضلالة : إما في الظاهر مثل دعاة الكفر وأيمته ، وإما في باطن النفوس مثل شياطين الوسواس الذين قال الله فيهم ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ويأتي في سورة الزخرف .
ومعنى تقييضهم لهم : تقديرهم لهم ، أي خلق المناسبات التي يتسبب عليها [ ص: 275 ] تقارن بعضهم مع بعض لتناسب أفكار الدعاة والقابلين كما يقول الحكماء استفادة القابل من المبدأ تتوقف على المناسبة بينهما . فالتقييض بمعنى التقدير عبارة جامعة لمختلف المؤثرات والتجمعات التي توجب التآلف والتحاب بين الجماعات ، ولمختلف الطبائع المكونة في نفوس بعض الناس فيقتضي بعضها جاذبية الشياطين إليها وحدوث الخواطر السيئة فيها . وللإحاطة بهذا المقصود أوثر التعبير هنا بـ قيضنا دون غيره من نحوه : بعثنا ، وأرسلنا .
والتزيين : التحسين ، وهو يشعر بأن المزين غير حسن في ذاته . وما بين أيديهم يستعار للأمور المشاهدة ، وما خلفهم يستعار للأمور المغيبة .
والمراد بـ ( ما بين أيديهم ) أمور الدنيا ، أي زينوا لهم ما يعملونه في الدنيا من الفساد مثل عبادة الأصنام ، وقتل النفس بلا حق ، وأكل الأموال ، والعدول على الناس باليد واللسان ، والميسر ، وارتكاب الفواحش ، والوأد . فعودوهم باستحسان ذلك كله لما فيه من موافقة الشهوات والرغبات العارضة القصيرة المدى ، وصرفوهم عن النظر فيما يحيط بأفعالهم تلك من المفاسد الذاتية الدائمة .
والمراد بـ ( ما خلفهم ) الأمور المغيبة عن الحس من صفات الله ، وأمور الآخرة من البعث والجزاء مثل الشرك بالله ونسبة الولد إليه ، وظنهم أنه يخفى عليه مستور أعمالهم ، وإحالتهم بعثة الرسل ، وإحالتهم البعث والجزاء .
ومعنى تزيينهم هذا لهم تلقينهم تلك العقائد بالأدلة السفسطائية مثل قياس الغائب على الشاهد ، ونفي الحقائق التي لا تدخل تحت المدركات الحسية كقولهم " ( أاذا كنا ترابا وعظاما إنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون ) " .
وحق عليهم أي تحقق فيهم القول وهو وعيد الله إياهم بالنار على الكفر ، فالتعريف في القول للعهد . وفي هذا العهد إجمال ؛ لأنه وإن كان قد ورد في القرآن ما يعهد منه هذا القول مثل قوله أفمن حق عليه كلمة العذاب وقوله فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ، فإنه يمكن أن لا تكون الآيات المذكورة قد سبقت هذه الآية .
[ ص: 276 ] وقوله في أمم حال من ضمير عليهم ، أي حق عليهم حالة كونهم في أمم أمثالهم قد سبقوهم .
والظرفية هنا مجازية ، وهي بمعنى التبعيض ، أي هم من أمم قد خلت من قبلهم حق عليهم القول . ومثل هذا الاستعمال قول عمرو بن أذينة :
إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو كا ففي آخرين قد أفكوا
أي فأنت من جملة آخرين قد صرفوا عن أحسن الصنيعة .ومن في قوله ( من الجن والإنس ) بيانية ، فيجوز أن يكون بيانا لـ أمم ، أي من أمم من البشر ومن الشياطين فيكون مثل قوله تعالى قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ، وقوله قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ويجوز أن يكون بيانا لـ ( قرناء ) أي ملازمين لهم ملازمة خفية وهي لهم بالوسوسة وملازمة أيمة الكفر لهم بالتشريع لهم ما لم يأذن به الله . ملازمة الشياطين
وجملة إنهم كانوا خاسرين يجوز أن تكون بيانا للقول مثل نظيرتها فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون في سورة الصافات ، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة وحق عليهم القول في أمم والمعنيان متقاربان .