وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون .
عطف على جملة إن تبدوا الصدقات وموقعها زيادة فضل الصدقات كلها ، وأنها لما كانت منفعتها لنفس المتصدق فليختر لنفسه ما هو خير ، وعليه أن يكثر منها بنبذ كل ما يدعو لترك بعضها .
وقوله : وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله جملة حالية ، وهو خبر مستعمل في معنى الأمر أي : إنما تكون منفعة الصدقات لأنفسكم إن كنتم ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله لا للرياء ولا لمراعاة حال مسلم وكافر ، وهذا المعنى صالح لكلا المعنيين المحتملين في الآية التي قبلها ويجوز كونها معطوفة عليها إذا كان الخبر بمعنى النهي ، أي : لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله ، وهذا الكلام خبر مستعمل في الطلب لقصد التحقيق والتأكيد ، ولذلك خولف فيه أسلوب ما حف به من جملة : وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وجملة : وما تنفقوا من خير يوف إليكم .
وقوله : وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون عطف على التي قبلها لبيان أن جزاء النفقات بمقدارها وأن من نقص له من الأجر فهو الساعي في نقصه ، وكرر فعل ( تنفقون ) ثلاث مرات في الآية لمزيد الاهتمام بمدلوله ، وجيء به مرتين بصيغة الشرط عند قصد بيان الملازمة بين الإنفاق والثواب ، وجيء به مرة في صيغة النفي والاستثناء لأنه قصد الخبر بمعنى الإنشاء ، أي : النهي عن أن ينفقوا إلا لابتغاء وجه الله .
[ ص: 73 ] وتقدم " وأنتم " على الخبر الفعلي لمجرد التقوي وزيادة التنبيه على أنهم لا يظلمون وإنما يظلمون أنفسهم .
وإنما جعلت هاته الأحكام جملا مستقلا بعضها عن بعض ولم تجعل جملة واحدة مقيدة فائدتها بقيود جميع الجمل ، وأعيد لفظ الإنفاق في جميعها بصيغ مختلفة تكريرا للاهتمام بشأنه ، لتكون كل جملة مستقلة بمعناها قصيرة الألفاظ كثيرة المعاني ، فتجري مجرى الأمثال وتتناقلها الأجيال .
وقد أخذ من الآيات الأخيرة - على أحد التفسيرين - جواز الصدقة على الكفار ، والمراد الكفار الذين يختلطون بالمسلمين غير مؤذين لهم ، وهم أهل العهد وأهل الذمة والجيران ، واتفق فقهاء الإسلام على جواز ، وحكمة ذلك أن الصدقة من إغاثة الملهوف ، والكافر من عباد الله ، ونحن قد أمرنا بالإحسان إلى الحيوان ، ففي الحديث الصحيح : قالوا : إعطاء صدقة التطوع للكافرين . يا رسول الله ، وإن لنا في البهائم لأجرا ؟ فقال : في كل ذي كبد رطبة أجر
واتفق الفقهاء على أن الصدقة المفروضة - أعني ، وحكمة ذلك أنها إنما فرضت لإقامة أود المسلمين ومواساتهم ، فهي مال الجامعة الإسلامية يؤخذ بمقادير معينة ، ففيه غنى المسلمين بخلاف ما يعطيه المرء عن طيب نفس لأجل الرأفة والشفقة ، واختلفوا في الزكاة - لا تعطى للكفار ، فالجمهور ألحقوها بالصدقات المفروضة ، صدقة الفطر وأبو حنيفة ألحقها بصدقة التطوع فأجاز إعطاءها إلى الكفار ، ولو قيل ذلك في غير زكاة الفطر كان أشبه ، فإن العيد عيد المسلمين ، ولعله رآها صدقة شكر على القدرة على الصيام ، فكان المنظور فيها حال المتصدق لا حال المتصدق عليه ، وقول الجمهور أصح لأن مشروعيتها لكفاية فقراء المسلمين عن المسألة في يوم عيدهم ، وليكونوا في ذلك اليوم أوسع حالا منهم في سائر المدة ، وهذا القدر لا تظهر حكمته في فقراء الكافرين .