إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ونكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير .
استئناف بياني ناشئ عن قوله وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه إذ أشعر تعميم من نفقة بحال الصدقات الخفية ، فيتساءل السامع في نفسه هل إبداء الصدقات يعد رياء وقد سمع قبل ذلك قوله كالذي ينفق ماله رئاء الناس [ ص: 67 ] ولأن قوله : فإن الله يعلمه قد كان قولا فصلا في اعتبار نيات المتصدقين وأحوال ما يظهرونه منها وما يخفونه من صدقاتهم ، فهذا الاستئناف يدفع توهما من شأنه تعطيل الصدقات والنفقات ، وهو أن يمسك المرء عنها إذا لم يجد بدا من ظهورها فيخشى أن يصيبه الرياء .
والتعريف في قوله " الصدقات " تعريف الجنس ، ومحمله على العموم ، فيشمل كل الصدقات فرضها ونفلها ، وهو المناسب لموقع هذه الآية عقب ذكر أنواع النفقات .
وجاء الشرط بـ " إن " في الصدقتين لأنها أصل أدوات الشرط ، ولا مقتضى للعدول عن الأصل ، إذ كلتا الصدقتين مرض لله تعالى ، وتفضيل صدقة السر قد وفى به صريح قوله : فهو خير لكم .
وقوله : " فنعما " أصله فنعم ما ، فأدغم المثلان وكسرت عين ( نعم ) لأجل التقاء الساكنين ، و ( ما ) في مثله نكرة تامة أي متوغلة في الإبهام لا يقصد وصفها بما يخصصها ، فتمامها من حيث عدم إتباعها بوصف لا من حيث إنها واضحة المعنى ، ولذلك تفسر بـ ( شيء ) ولما كانت كذلك تعين أن تكون في موضع التمييز لضمير ( نعم ) المرفوع المستتر ، فالقصد منه التنبيه على القصد إلى عدم التمييز حتى إن المتكلم - إذا ميز - لا يميز إلا بمثل المميز .
وقوله ( هي ) مخصوص بالمدح أي الصدقات . وقد علم السامع أنها الصدقات المبداة ، بقرينة فعل الشرط ، فلذلك كان تفسير المعنى فنعما إبداؤها .
وقرأ عن ورش نافع وابن كثير وحفص ويعقوب " فنعما " - بكسر العين وتشديد الميم من ( نعم ) مع ميم ( ما ) وقرأه ابن عامر وحمزة بفتح النون وكسر العين ، وقرأه والكسائي عن قالون نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بكسر النون واختلاس حركة العين بين الكسر والسكون ، وقرأه أبو جعفر بكسر النون وسكون العين مع بقاء تشديد الميم ، ورويت هذه أيضا عن قالون وأبي عمرو وأبي بكر .
وقوله : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم لأن فيها إبقاء على ماء وجه الفقير ، حيث لم يطلع عليه غير المعطي ، وفي الحديث الصحيح عد من السبعة الذين يظلهم الله بظله : تفضيل لصدقة السر يعني مع شدة القرب بين اليمين والشمال ، لأن حساب الدراهم ومناولة الأشياء بتعاونهما ، فلو كانت الشمال من ذوات العلم لما أطلعت على ما أنفقته اليمين . ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم [ ص: 68 ] شماله ما أنفقت يمينه
وقد فضل الله في هذه الآية صدقة السر على صدقة العلانية على الإطلاق ، فإن حملت الصدقات على العموم - كما هو الظاهر - إجراء للفظ الصدقات مجرى لفظ الإنفاق في الآي السابقة واللاحقة ، كان أفضل ، وهو قول جمهور العلماء ، وعن إخفاء صدقة الفرض والنفل أن هذا أحد قولي ألكيا الطبري وعن الشافعي ، المهدوي : كان الإخفاء أفضل فيهما في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ساءت ظنون الناس بالناس فاستحسن العلماء إظهار صدقة الفرض ، قال ابن عطية : وهذا مخالف للآثار أن إخفاء الصدقة أفضل ، فيكون عموم الصدقات في الآية مخصوصا بصدقة التطوع ، ومخصص العموم الإجماع ، وحكى ابن العربي الإجماع عليه ، وإن أريد بالصدقات في الآية غير الزكاة كان المراد بها أخص من الإنفاق المذكور من الآي قبلها وبعدها ، وكان تفضيل الإخفاء مختصا بالصدقات المندوبة ، وقال ابن عباس والحسن : إظهار الزكاة أفضل ، وإخفاء صدقة التطوع أفضل من إظهارها وهو قول . الشافعي
وقوله : وتؤتوها الفقراء توقف المفسرون في حكمة ذكره ، مع العلم بأن الصدقة لا تكون إلا للفقراء ، وأن الصدقة المبداة أيضا تعطى للفقراء .
فقال العصام : كأن نكتة ذكره هنا أن الإبداء لا ينفك عن إيتاء الفقراء ; لأن الفقير يظهر فيه ويمتاز عن غيره إذ يعلمه الناس بحاله ، بخلاف الإخفاء ، فاشترط معه إيتاؤها للفقير حثا على الفحص عن حال من يعطيه الصدقة ، أي لأن الحريصين من غير الفقراء يستحيون أن يتعرضوا للصدقات الظاهرة ولا يصدهم شيء عن التعرض للصدقات الخفية .
وقال الخفاجي : لم يذكر الفقراء مع المبداة لأنه أريد بها الزكاة ومصارفها الفقراء وغيرهم ، وأما الصدقة المخفاة فهي صدقة التطوع ومصارفها الفقراء فقط .
وهو ضعيف لوجهين : أحدهما أنه لا وجه لقصر الصدقة المبداة على الفريضة ، ولا قائل به ، بل الخلاف في أن تفضيل الإخفاء هل يعم الفريضة أو لا ، الثاني أن الصدقة المتطوع بها لا يمتنع صرفها لغير الفقراء كتجهيز الجيوش .
[ ص: 69 ] وقال الشيخ ابن عاشور جدي في تعليق له على حديث فضل إخفاء الصدقة من صحيح مسلم : عطف إيتاء الفقراء على الإخفاء المجعول شرطا للخيرية في الآية مع العلم بأن الصدقة للفقراء - يؤذن بأن الخيرية لإخفاء حال الفقير وعدم إظهار اليد العليا عليه ، أي فهو إيماء إلى العلة وأنها الإبقاء على ماء وجه الفقير ، وهو القول الفصل لانتفاء شائبة الرياء .
وقوله : ونكفر عنكم من سيئاتكم قرأه نافع والكسائي وأبو بكر وأبو جعفر وخلف بنون العظمة ، وبجزم الراء عطفا على موضع جملة الجواب وهي جملة " فهو خير لكم " ، فيكون التكفير معلقا على الإخفاء ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بالنون أيضا وبرفع الراء على أنه وعد على إعطاء الصدقات ظاهرة أو خفية ، وقرأه ابن عامر وحفص بالتحتية على أن ضميره عائد إلى الله وبالرفع .