رفيع الدرجات خبر عن مبتدأ محذوف هو ضمير اسم الجلالة في قوله ( فادعوا الله ) وليس خبرا ثانيا بعد قوله هو الذي يريكم آياته لأن الكلام هنا في غرض مستجد ، وحذف المسند إليه في مثله حذف اتباع للاستعمال في حذف مثله ، كذا سماه السكاكي بعد أن يجري من قبل الجملة حديث عن المحذوف كقول عبد الله بن الزبير أو إبراهيم بن العباس الصولي أو محمد بن سعيد الكاتب :
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
و ( الدرجات ) مستعارة للمجد والعظمة ، وجمعها إيذان بكثرة العظمات باعتبار صفات مجد الله التي لا تحصر ، والمعنى : أنه حقيق بإخلاص الدعاء إليه .
ويجوز أن يكون ( رفيع ) من أمثلة المبالغة ، أي كثير رفع الدرجات لمن يشاء وهو معنى قوله تعالى نرفع درجات من نشاء ، وإضافته إلى الدرجات من الإضافة إلى المفعول فيكون راجعا إلى صفات أفعال الله تعالى .
والمقصود : تثبيتهم على عبادة الله مخلصين له الدين بالترغيب بالتعرض إلى [ ص: 107 ] رفع الله درجاتهم كقوله يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات في سورة المجادلة .
و ( ذو العرش ) خبر ثان وفيه إشارة إلى أن رفع الدرجات منه متفاوت .
كما أن مخلوقاته العليا متفاوتة في العظم والشرف إلى أن تنتهي إلى العرش وهو أعلى المخلوقات كأنه قيل : إن الذي رفع السماوات ورفع العرش ماذا تقدرون رفعه درجات عابديه على مراتب عبادتهم وإخلاصهم .
وجملة ( يلقي الروح من أمره ) خبر ثالث ، أو بدل بعض من جملة ( رفيع الدرجات ) فإن من رفع الدرجات أن يرفع بعض عباده إلى درجة النبوءة وذلك أعظم رفع الدرجات بالنسبة إلى عباده ، فبدل البعض هو هنا أهم أفراد المبدل منه .
والإلقاء : حقيقته رمي الشيء من اليد إلى الأرض ، ويستعار للإعطاء إذا كان غير مترقب ، وكثر هذا في القرآن ، قال ( فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم ) ، واستعير هنا للوحي لأنه يجيء فجأة على غير ترقب كإلقاء الشيء إلى الأرض .
والروح : الشريعة ، وحقيقة الروح : ما به حياة الحي من المخلوقات ، ويستعار للنفيس من الأمور وللوحي لأنه به حياة الناس المعنوية وهي كمالهم وانتظام أمورهم ، فكما تستعار الحياة للإيمان والعلم ، كذلك يستعار الروح الذي هو سبب الحياة لكمال النفوس وسلامتها من الطوايا السيئة ، ويطلق الروح على الملك قال فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا .
و ( من ) ابتدائية في ( من أمره ) ، أي بأمره ، فالأمر على ظاهره . ويجوز أن تكون ( من ) تبعيضية ظرفا مستقرا صفة الروح أي بعض شئونه التي لا يطلع عليها غيره إلا من ارتضى فيكون الأمر بمعنى الشأن ، أي الشئون العجيبة ، وقيل ( من ) بيانية وأن الأمر هو الروح وهذا بعيد .
وهذه الآية تشير إلى أن النبوءة غير مكتسبة لأنها ابتدئت بقوله [ ص: 108 ] فادعوا الله مخلصين له الدين ثم أعقب بقوله ( رفيع الدرجات ) فأشار إلى أن عبادة الله بإخلاص سبب لرفع الدرجات ، ثم أعقب بقوله يلقي الروح من أمره فجيء بفعل الإلقاء وبكون الروح من أمره وبصلة من يشاء من عباده ، فآذن بأن ذلك بمحض اختياره وعلمه كما قال تعالى " ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) " .
وهذا يرتبط بقوله في أول السورة إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في العبادة مفرعا على إنزال الكتاب إليه ، وجاء في شأن الناس بقوله فادعوا الله مخلصين ثم أعقبه بقوله ( رفيع الدرجات ) .
وقد ضرب لهم العرش والأنبياء مثلين لرفع الدرجات في العوالم والعقلاء . وفيه تعريض إذ قالوا بتسفيه المشركين أبشرا منا واحدا نتبعه ، وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وقالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله .
وتخلص من ذكر النبوءة إلى النذارة بيوم الجزاء . ليعود الذي انقطع الكلام عليه من قوله تعالى ( وصف يوم الجزاء ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم ) إلخ .
والإنذار : إخبار فيه تحذير مما يسوء وهو بضد التبشير إذ هو إخبار بما فيه مسرة . وفعله المجرد : نذر كعلم ، يقال : نذر بالعدو فحذره .
والهمزة في أنذر للتعدية فحقه أن لا يتعدى بالهمزة إلا إلى مفعول واحد وهو الذي كان فاعل الفعل المجرد ، وأن يتعدى إلى الأمر المخبر به بالباء ، يقال : أنذرتهم بالعدو ، غير أنه غلب في الاستعمال تضمينه معنى التحذير فعدوه إلى مفعول ثان وهو استعمال القرآن ، وأما قوله في أول الأعراف ( لتنذر به ) فالباء فيه للسببية أو الآلة المجازية وليست للتعدية . وضمير ( به ) عائد إلى الكتاب .
والضمير المستتر في ( لينذر ) عائد إلى اسم الجلالة من قوله ( فادعوا الله ) ، والأحسن أن يعود على ( من ) الموصولة لينذر من ألقى عليه الروح قومه ، ولأن [ ص: 109 ] فيه تخلصا إلى ذكر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي هو بصدد الإنذار دون الرسل الذين سبقوا إذ لا تلائمهم صيغة المضارع ولأنه مرجح لإظهار اسم الجلالة في قوله ( لا يخفى على الله منهم شيء ) كما سيأتي .
و ( يوم التلاقي ) هو يوم الحشر ، وسمي يوم التلاقي لأن الناس كلهم يلتقون فيه ، أو لأنهم يلقون ربهم لقاء مجازيا ، أي يقفون في حضرته وأمام أمره مباشرة كما قال تعالى الذين لا يرجون لقاءنا أي لا يرجون . وانتصب ( يوم التلاقي ) على أنه مفعول ثان ل ( ينذر ) ، وحذف المفعول الأول لظهوره ، أي لينذر الناس . يوم الحشر
وبين ( التلاقي ) و ( يلقي ) جناس .
وكتب " التلاقي " في المصحف بدون ياء . وقرأه نافع وأبو عمرو في رواية عنه بكسرة بدون ياء . وقرأه الباقون بالياء لأنه وقع في الوصل لا في الوقف فلا موجب لطرح الياء إلا معاملة الوصل معاملة الوقف وهو قليل في النثر فيقتصر فيه على السماع . وكفى برواية نافع وأبي عمرو سماعا .
و يوم هم بارزون بدل من ( يوم التلاقي ) . ( وهم بارزون ) جملة اسمية ، والمضاف ظرف مستقبل وذلك جائز على الأرجح بدون تقدير .
وضمير الغيبة عائد إلى " الكافرون " من قوله ولو كره الكافرون .
وجملة ( لا يخفى على الله منهم شيء ) بيان لجملة ( هم بارزون ) والمعنى : أنهم واضحة ظواهرهم وبواطنهم فإن ذلك مقتضى قوله ( منهم شيء ) .
وإظهار اسم الجلالة لأن إظهاره أصرح لبعد معاده بما عقبه من قوله ( على من يشاء من عباده ) ، ولأن الأظهر أن ضمير ( لينذر ) عائد إلى ( من يشاء ) .
ومعنى ( منهم ) من مجموعهم ، أي من مجموع أحوالهم وشئونهم ، ولهذا أوثر ضمير الجمع لما فيه من الإجمال الصالح لتقدير مضاف مناسب للمقام ، وأوثر أيضا لفظ ( شيء ) لتوغله في العموم ، ولم يقل لا يخفى على الله منهم [ ص: 110 ] أحد أو لا يخفى على الله من أحد شيء ، أي من أجزاء جسمه ، فالمعنى : لا يخفى على الله شيء من أحوالهم ظاهرها وباطنها .