وحذف مفعول " كذبت " لأنه سيرد ما يبينه في قوله إن كل إلا كذب الرسل كما سيأتي . وخص فرعون بإسناد التكذيب إليه دون قومه لأن الله أرسل موسى - عليه السلام - إلى فرعون ليطلق بني إسرائيل ، فكذب موسى ، فأمر الله موسى بمجادلة فرعون لإبطال كفره ، فتسلسل الجدال في العقيدة ووجب إشهار أن فرعون وقومه في ضلال لئلا يغتر بنو إسرائيل بشبهات فرعون ، ثم كان فرعون عقب ذلك مضمرا أذى موسى ومعلنا بتكذيبه .
ووصف فرعون بأنه ب " ذو الأوتاد " لعظمة ملكه وقوته فلم يكن ذلك ليحول بينه وبين عذاب الله . وأصل الأوتاد أنه : جمع وتد بكسر التاء : عود غليظ له رأس مفلطح يدق في الأرض ليشد به الطنب ، وهو الحبل العظيم الذي تشد به شقة البيت والخيمة فيشد إلى الوتد وترفع الشقة على عماد البيت ، قال الأفوه الأودي :
والبيت لا يبتنى إلا على عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
و " الأوتاد " في الآية مستعار لثبات الملك والعز ، كما قال الأسود بن يعفر :ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد
[ ص: 221 ] وهذا القول هو الذي يتأيد بمطابقة التاريخ فإن فرعون المعني في هذه الآية هو ( منفتاح الثاني ) الذي خرج بنو إسرائيل من مصر في زمنه ، وهو من ملوك العائلة التاسعة عشرة في ترتيب الأسر التي تداولت ملك مصر ، وكانت هذه العائلة مشتهرة بوفرة المباني التي بناها ملوكها من معابد ومقابر ، وكانت مدة حكمهم مائة وأربعا وسبعين سنة من سنة 1462 قبل المسيح إلى سنة 1288 ق . م .
وقال الأستاذ محمد عبده في تفسيره للجزء الثلاثين من القرآن في سورة الفجر : " وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد ، فإنها هي الأهرام ومنظرها في عين الرائي منظر الوتد الضخم المغروز في الأرض " اهـ . وأكثر الأهرام بنيت قبل زمن فرعون موسى منفتاح الثاني ، فكان منفتاح هذا مالك تلك الأهرام فإنه يفتخر بعظمتها ، وليس يفيد قوله ذو الأوتاد أكثر من هذا المعنى إذ لا يلزم أن يكون هو الباني تلك الأهرام . وذلك كما يقال : ذو النيل ، وقال تعالى حكاية عنه وهذه الأنهار تجري من تحتي .
وأما ثمود وقوم لوط فتقدم الكلام عليهم غير مرة .
وأصحاب ليكة : هم أهل مدين ، وقد تقدم خبرهم وتحقيق أنهم من قوم شعيب وأنهم مختلطون مع مدين في سورة الشعراء .
وتقديم ذكر فرعون على ثمود وقوم لوط وأصحاب ليكة مع أن قصته حدثت بعد قصصهم لأن حاله مع موسى أشبه بحال زعماء أهل الشرك بمكة من أحوال الأمم الأخرى ، فإنه قاوم موسى بجيش كما قاوم المشركون المسلمين بجيوش .
وجملة أولئك الأحزاب معترضة بين جملة " كذبت قبلهم " وجملة إن كل إلا كذب الرسل .
واسم الإشارة مستعمل في التعظيم ، أي تعظيم القوة .
والتعريف في " الأحزاب " استغراق ادعائي وهو المسمى بالدلالة على معنى الكمال مثل : هم القوم وأنت الرجل .
والحصر المستفاد من تعريف المسند والمسند إليه حصر ادعائي ، قصرت صفة [ ص: 222 ] الأحزاب على المشار إليهم ب " أولئك " بادعاء الأمم ، وأن غيرهم لما يبلغوا مبلغ أن يعدوا من الأحزاب ، فظاهر القصر ولام الكمال لتأكيد معنى الكمال كقول الأشهب بن رميلة :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وجملة إن كل إلا كذب الرسل مؤكدة لجملة كذبت قبلهم قوم نوح إلى قوله " وأصحاب ليكة ، أخبر أولا عنهم بأنهم كذبوا وأكد ذلك بالإخبار عنهم بأنهم ليسوا إلا مكذبين على وجه الحصر ، كأنهم لا صفة لهم إلا تكذيب الرسل لتوغلهم فيها وكونها هجيراهم .
و ( إن ) نافية ، وتنوين ( كل ) تنوين عوض ، والتقدير : إن كلهم .
وجيء بالمسند فعلا في قوله " كذب الرسل " ليفيد تقديم المسند إليه عليه تخصيص المسند إليه بالمسند الفعلي فحصل بهذا النظم أكيد الحصر .
وتعدية " كذب " إلى الرسل بصيغة الجمع مع أن كل أمة إنما كذبت رسولها ، مقصود منه تفظيع التكذيب لأن الأمة إنما كذبت رسولها مستندة لحجة سفسطائية هي استحالة أن يكون واحد من البشر رسولا من الله ، فهذه السفسطة تقتضي أنهم يكذبون جميع الرسل .
وقد حصل تسجيل التكذيب عليهم بفنون من تقوية ذلك التسجيل وهي إبهام مفعول " كذبت " في قوله " كذبت قبلهم " ثم تفصيله بقوله " إلا كذب الرسل " وما في قوله إن كل إلا كذب الرسل من الحصر ، وما في تأكيده بالمسند الفعلي في قوله " إلا كذب " ، وما في جعل المكذب به جميع الرسل ، [ ص: 223 ] فأنتج ذلك التسجيل استحقاقهم عذاب الله في قوله " فحق عقاب " ، أي عقابي ، فحذفت ياء المتكلم للرعاية على الفاصلة وأبقيت الكسرة في حالة الوصل .
وحق : تحقق ، أي كان حقا ، لأنه اقتضاه عظيم جرمهم . : هو ما حل بكل أمة منهم من العذاب وهو الغرق والتمزيق بالريح ، والغرق أيضا ، والصيحة ، والخسف ، وعذاب يوم الظلة . والعقاب
وفي هذا تعريض بالتهديد لمشركي قريش بعذاب مثل عذاب أولئك لاتحادهم في موجبه .