وكان هذا البيان إخبارا مرفقا بحجة من قبيل قياس تمثيل ؛ لأن قوله " من قبلهم " يؤذن بأنهم مثلهم في العزة والشقاق ، ومتضمنا تحذيرا من التريث عن إجابة دعوة الحق ، أي ينزل بهم العذاب فلا ينفعهم ندم ولا متاب كما لم ينفع القرون من قبلهم . فالتقدير : سيجازون على عزتهم وشقاقهم بالهلاك كما جوزيت أمم كثيرة من قبلهم في ذلك ، فليحذروا ذلك فإنهم إن حقت عليهم كلمة العذاب لم ينفعهم متاب كما لم ينفع الذين من قبلهم متاب عند رؤية العذاب .
و ( كم ) اسم دال على عدد كثير . و " من قرن " تمييز لإبهام العدد ، أي : عددا كثيرا من القرون ، وهي في موضع نصب بالمفعولية ل " أهلكنا " .
والقرن : الأمة كما في قوله تعالى ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ، و " من قبلهم " يجوز أن يكون ظرفا مستقرا جعل صفة ل " قرن " مقدمة عليه فوقعت حالا ، وإنما قدم للاهتمام بمضمونه ليفيد الاهتمام إيماء إلى أنهم أسوة لهم في العزة والشقاق وأن ذلك سبب إهلاكهم .
ويجوز أن يكون متعلقا ب " أهلكنا " على أنه ظرف لغو ، وقدم على مفعول فعله [ ص: 207 ] مع أن المفعول أولى بالسبق من بقية معمولات الفعل ليكون تقديمه اهتماما به إيماء إلى الإهلاك كما في الوجه الأول .
وفرع على الإهلاك أنهم نادوا فلم ينفعهم نداؤهم ، تحذيرا من أن يقع هؤلاء في مثل ما وقعت فيه القرون من قبلهم إذ أضاعوا الفرصة فنادوا بعد فواتها فلم يفدهم نداؤهم ولا دعاؤهم .
والمراد بالنداء في " فنادوا " نداؤهم الله تعالى تضرعا ، وهو الدعاء كما حكي عنهم في قوله تعالى ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون .
وقوله حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون .
وجملة ولات حين مناص في موضع الحال ، والواو واو الحال ، أي نادوا في حال لا حين مناص لهم .
و ( لات ) حرف نفي بمعنى لا المشبهة ب ( ليس ) ، و ( لات ) حرف مختص بنفي أسماء الأزمان وما يتضمن معنى الزمان من إشارة ونحوها .
وهي مركبة من ( لا ) النافية وصلت بها تاء زائدة لا تفيد تأنيثا لأنها ليست هاء وإنما هي كزيادة التاء في قولهم : ربت وثمت .
والنفي بها لغير الزمان ونحوه خطأ في اللغة وقع فيه أبو الطيب إذ قال :
لقد تصبرت حتى لات مصطبر والآن أقحم حتى لات مقتحم
وأغفل شارحو ديوانه كلهم وقد أدخل ( لات ) على غير اسم زمان .وأيا ما كان فقد صارت ( لا ) بلزوم زيادة التاء في آخرها حرفا مستقلا خاصا بنفي أسماء الزمان فخرجت عن نحو : ربت وثمت .
وزعم أن التاء في أبو عبيد القاسم بن سلام ولات حين مناص متصلة ب " حين " وأنه رآها في مصاحف عثمان متصلة ب " حين " وزعم أن هذه التاء [ ص: 208 ] تدخل على : حين وأوان وآن ، يريد أن التاء لاحقة لأول الاسم الذي بعد ( لا ) ولكنه لم يفسر لدخولها معنى . وقد اعتذر الأيمة عن وقوع التاء متصلة ب ( حين ) في بعض نسخ المصحف الإمام بأن رسم المصحف قد يخالف القياس ، على أن ذلك لا يوجد في غير المصحف الذي رآه أبو عبيد من المصاحف المعاصرة لذلك المصحف والمرسومة بعده .
والمناص : النجاء والفوت ، وهو مصدر ميمي ، يقال : ناصه ، إذا فاته .
والمعنى : فنادوا مبتهلين في حال ليس وقت نجاء وفوت ، أي قد حق عليهم الهلاك كما قال تعالى فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده .