[ ص: 161 ] " وبشرناه بإسحاق نبيئا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين " هذه بشارة أخرى لإبراهيم ومكرمة له ، وهي غير البشارة بالغلام الحليم ، فإسحاق غير الغلام الحليم . وهذه البشارة هي التي ذكرت في القرآن في قوله تعالى فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب .
وتسمية المبشر به إسحاق تحتمل أن الله عين له اسما يسميه به وهو مقتضى ما في الإصحاح السابع عشر من التكوين " سارة امرأتك تلد ابنا وتدعو اسمه إسحاق .
وتحتمل أن المراد : بشرناه بولد الذي سمي إسحاق ، وهو على الاحتمالين إشارة إلى أن الغلام المبشر به في الآية قبل هذه ليس هو الذي اسمه إسحاق فتعين أنه الذي سمي إسماعيل .
ومعنى البشارة به البشارة بولادته له ؛ لأن البشارة لا تتعلق بالذوات بل تتعلق بالمعاني .
وانتصب " نبيئا " على الحال من إسحاق ، فيجوز أن يكون حكاية للبشارة فيكون الحال حالا مقدرا لأن اتصاف إسحاق بالنبوءة بعد زمن البشارة بمدة طويلة بل هو لم يكن موجودا ، فالمعنى : وبشرناه بولادة ولد اسمه إسحاق مقدرا ، حاله أنه نبيء ، وعدم وجود صاحب الحال في وقت الوصف بالحال لا ينافي اتصاله بالحال على تقدير وجوده ؛ لأن وجود صاحب الحال غير شرط في وصفه بالحال ، بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به مع اعتبار معنى الحال لأن غايته أنه من استعمال اسم الفاعل في زمان الاستقبال بالقرينة ، ولا تكون الحال المقدرة إلا كذلك ، وطول زمان الاستقبال لا يتحدد ، ومنه ما تقدم في قوله تعالى " ويأتينا فردا " في سورة مريم .
واعلم أن معنى الحال المقدرة أنها مقدر حصولها غير حاصلة الآن والمقدر هو الناطق بها ، وهي وصف لصاحبها في المستقبل وقيد لعاملها كيفما كان ، فلا [ ص: 162 ] تحتفل بما أطال به في الكشاف ولا بمخالفة البيضاوي له ولا بما تفرع على ذلك من المباحثات .
وإن كان وضعا معترضا في أثناء القصة كان تنويها بإسحاق وكان حالا حاصلة .
وقوله " من الصالحين " حال ثانية ، وذكرها للتنويه بشأن الصلاح ، فإن الأنبياء معدودون في زمرة أهله وإلا فإن كل نبيء لا بد أن يكون صالحا ، والنبوءة أعظم أحوال الصلاح لما معها من العظمة .
وبارك : جعله ذا بركة ، والبركة زيادة الخير في مختلف وجوهه ، وقد تقدم تفسيرها عند قوله تعالى إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا في سورة آل عمران ، وقوله " وبركات عليك " في سورة هود .
و ( على ) للاستعلاء المجازي ، أي تمكن البركة من الإحاطة بهما .
ولما ذكر ما أعطاهما نقل الكلام إلى ذريتهما فقال ومن ذريتهما محسن ، أي عامل بالعمل الحسن ، " وظالم لنفسه " أي مشرك غير مستقيم ، للإشارة إلى أن ذريتهما ليس جميعها كحالهما بل هم مختلفون ، فمن ذرية إبراهيم أنبياء وصالحون ومؤمنون ، ومن ذرية إسحاق مثلهم ، ومن ذرية إبراهيم من حادوا عن سنن أبيهم مثل مشركي العرب ، ومن ذرية إسحاق كذلك مثل من كفر من اليهود بالمسيح وبمحمد - صلى الله عليهما - ، ونظيره قوله تعالى قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين في سورة البقرة .
وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر ، فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر ، وعلى أن فساد الأعقاب لا يعد غضاضة على الآباء ، وأن ، وأما كرامة الآباء فتكملة للكمال وباعث على الاتساع بفضائل الخلال ، فكان في هذه التكملة إبطال غرور المشركين بأنهم من ذرية مناط الفضل هو خصال الذات وما اكتسب المرء من الصالحات إبراهيم ، وأنها مزية لكن لا يعادلها الدخول في الإسلام وأنهم الأولى بالمسجد الحرام . قال أبو طالب في خطبة للنبيء صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي جعلنا من ذرية خديجة إبراهيم وزرع إسماعيل وجعلنا [ ص: 163 ] رجال حرمه وسدنة بيته " ، فكان ذلك قبل الإسلام ، وقال الله تعالى لهم بعد الإسلام أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله ، وقال تعالى وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون وقال " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبيء والذين آمنوا .
وقد ضرب الله هذه القصة مثلا لحال النبيء صلى الله عليه وسلم في ثباته على إبطال الشرك ، وفيما لقي من المشركين ، وإيماء إلى أنه يهاجر من أرض الشرك وأن الله يهديه في هجرته ويهب له أمة عظيمة كما وهب إبراهيم أتباعا ، فقال : " إن إبراهيم كان أمة " .
وفي قوله تعالى ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين مثل لحال النبيء صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه من أهل مكة ولحال المشركين من أهل مكة .