وهذه أول هجرة في سبيل الله للبعد عن عبادة غير الله . والتوراة بعد أن طوت سبب أمر الله إياه بالخروج ذكر فيها أنه خرج قاصدا بلاد حران في أرض كنعان ( وهي بلاد الفينيقيين ) .
والظاهر : أن هذا القول قاله علنا في قومه ليكفوا عن أذاه ، وكان الأمم الماضون يعدون الجلاء من مقاطع الحقوق ، قال زهير :
[ ص: 147 ]
وإن الحق مقطعه ثلاث يمين أو نفار أو جلاء
ولذلك لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة من مكة لم تتعرض له قريش في بادئ الأمر ، ثم خافوا أن تنتشر دعوته في الخارج فراموا اللحاق به فحبسهم الله عنه .ويحتمل أن يكون قال ذلك في أهله الذين يريد أن يخرج بهم معه ، فمعنى ذاهب إلى ربي مهاجر إلى حيث أعبد ربي وحده ولا أعبد آلهة غيره ولا أفتن في عبادته كما فتنت في بلدهم .
مكة ليقيم هنالك أول مسجد لإعلان توحيد الله ، فسلك به المسالك التي سلكها حتى بلغ به ومراد الله أن يفضي إلى بلوغ مكة وأودع بها أهلا ونسلا ، وأقام بها قبيلة دينها التوحيد ، وبنى لله معبدا ، وجعل نسله حفظة بيت الله ، ولعل الله أطلعه على تلك الغاية بالوحي أو سترها عنه حتى وجد نفسه عندها ، فلذلك أنطقه بأن ذهابه إلى الله نطقا عن علم أو عن توفيق .
وجملة " سيهدين " يجوز أن تكون حالا وهو الأظهر ؛ لأنه أراد إعلام قومه بأنه واثق بربه وأنه لا تردد له في مفارقتهم ، ويجوز أن تكون استئنافا ، فعلى الأول هي حال من اسم الجلالة ، ولا يمنع من جعل الجملة حالا اقترانها بحرف الاستقبال ، فإن حرف الاستقبال يدل على أنها حال مقدرة ، والتقدير : إني ذاهب إلى ربي مقدرا ، كما لم يمتنع مجيء الحال معمولا لعامل مستقبل كما في قوله تعالى سيدخلون جهنم داخرين وقوله تعالى إن معي ربي سيهدين وقول سعد بن ناشب :
سأغسل عني العار بالسيف جالبا علي قضاء الله ما كان جالبا
ويجوز أن تكون جملة " سيهدين " مستأنفة ، وبذلك أجاب نحاة البصرة عن تمسك نحاة الكوفة بالآية في جواز اقتران الحال بعلم الاستقبال ، فالاستئناف بياني بيانا لسبب هجرته .
وجملة رب هب لي من الصالحين بقية قوله ، فإنه بعد أن أخبر أنه مهاجر استشعر قلة أهله وعقم امرأته ، وثار ذلك الخاطر في نفسه عند إزماع الرحيل لأن الشعور بقلة الأهل عند مفارقة الأوطان يكون أقوى ؛ لأن المرء إذا كان بين قومه كان له بعض السلو بوجود قرابته وأصدقائه .
ومما يدل على أنه سأل النسل ما جاء في سفر التكوين ( الإصحاح الخامس عشر ) " وقال أبرام : إنك لم تعطني نسلا وهذا ابن بيتي ( بمعنى مولاه ) وارث لي ( لأنهم كانوا إذا مات عن غير نسل ورثه مواليه ) " . وكان عمر إبراهيم حين خرج من بلاده نحوا من سبعين سنة .
وقال في الكشاف : لفظ الهبة غلب في الولد . لعله يعني أن هذا اللفظ غلب في القرآن في الولد ، ولا أحسبه غلب فيه في كلام العرب لأني لم أقف عليه ، وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا .
فحذف مفعول الفعل لدلالة الفعل عليه .
ووصفه بأنه من الصالحين لأن نعمة الولد تكون أكمل إذا كان صالحا ، فإن صلاح الأبناء قرة عين للآباء ، ومن صلاحهم برهم بوالديهم .