وأطلق الوعد على الإنذار والتهديد بالشر لأن الوعد أعم ويتعين للخير والشر بالقرينة .
واسم الإشارة للوعد مستعمل في الاستخفاف بوعد العذاب كما في قول قيس بن الخطيم :
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة لنفسي إلا قد قضيت قضاءهـا
وإذا قد كان استهزاؤهم هذا يسوء المسلمين أعلم الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بأن الوعد واقع لا محالة وأنهم ما ينتظرون إلا صيحة تأخذهم فلا يفلتون من أخذتها .[ ص: 34 ] وفعل ينظرون مشتق من النظرة وهو الترقب ، وتقدم في قوله تعالى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة سورة الأعراف . والصيحة : الصوت الشديد الخارج من حلق الإنسان لزجر ، أو استغاثة . وأطلقت الصيحة في مواضع في القرآن على صوت الصاعقة كما في قوله تعالى في شأن ثمود فأخذتهم الصيحة . فالصيحة هنا تحتمل المجاز ، أي ما ينتظرون إلا صعقة أو نفخة عظيمة . والمراد النفخة الأولى التي ينقضي بها نظام الحياة في هذا العالم ، والأخرى تنشأ عنها النشأة الثانية وهي الحياة الأبدية ، فيكون أسلوب الكلام خارجا على الأسلوب الحكيم إعراضا عن جوابهم لأنهم لم يقصدوا حقيقة الاستفهام فأجيبوا بأن ما أعد لهم من العذاب هو الأجدر بأن ينتظروه . ومعنى تأخذهم تهلكهم فجأة ، شبه حلول صيحة العقاب بحلول المغيرين على الحي لأخذ أنعامه وسبي نسائه ، فأطلق على ذلك الحلول فعل تأخذهم كقوله تعالى فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية أي : تحل بهم وهم يختصمون . وإسناد الأخذ إلى الصيحة حقيقة عقلية لأنهم يهلكون بصعقتها . ويحتمل أن تكون الصيحة على حقيقتها وهي صيحة صائحين ، أي ما ينتظرون إلا أن يصاح بهم صيحة تنذر بحلول القتل ، فيكون إنذارا بعذاب الدنيا . ولعلها صيحة الصائحين الذي جاءهم بخبر تعرض المسلمين لركب تجارة قريش في بدر . و " يخصمون " من الخصومة والخصام وهو الجدال ، وتقدم في قوله ولا تكن للخائنين خصيما في سورة النساء وقوله هذان خصمان في سورة الحج . وأصله : يختصمون فوقع إبدال التاء ضادا لقرب مخرجيهما طلبا للتخفيف بالإدغام . واختلف القراء في كيفية النطق بها ، فقرأه الجميع بفتح الياء واختلفوا فيما عدا ذلك : فقرأ عن ورش نافع وابن كثير وأبو عمرو في رواية عنه " يخصمون " .
[ ص: 35 ] بتشديد الصاد مكسورة على اعتبار التاء المبدلة صادا والمسكنة لأجل الإدغام ، ألقيت حركتها على الخاء التي كانت ساكنة . وقرأه عن قالون نافع وأبو عمرو في المشهور عنه بسكون الخاء سكونا مختلسا " بالفتح " لأجل التخلص من التقاء الساكنين وبكسر الصاد مشددة . وقرأه عاصم والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب وخلف " يخصمون " كسر الخاء وكسر الصاد مشددة . وقرأه حمزة " يخصمون " بسكون الخاء وكسر الصاد مخففة مضارع " خصم " قيل بمعنى جادل . وقرأ أبو جعفر " يخصمون " إسكان الخاء وبكسر الصاد مشددة على الجمع بين الساكنين . والاختصام : اختصامهم في الخروج إلى بدر أو في تعيين من يخرج لما حل بهم من مفاجآت لهم وهم يختصمون بين مصدق ومكذب للنذير . وإسناد الأخذ إلى الصيحة على هذا التأويل مجاز عقلي لأن الصيحة وقت الأخذ وإنما تأخذهم سيوف المسلمين . وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله وهم يخصمون لإفادة تقوي الحكم وهو أن الصيحة تأخذهم . . وفرع على تأخذهم جملة فلا يستطيعون توصية أي لا يتمكنون من توصية على أهليهم وأموالهم من بعدهم كما هو شأن المحتضر ، فإن كان المراد من الصيحة صيحة الواقعة كان قوله فلا يستطيعون توصية كناية عن شدة السرعة بين الصيحة وهلاكهم ، إذ لا يكون المراد مدلوله الصريح لأنهم لا يتركون غيرهم بعدهم ؛ إذ الهلاك يأتي على جميع الناس . وإن كان المراد من الصيحة صيحة القتال كان المعنى : أنهم يفزعون إلى مواقع القتال يوم بدر ، أو إلى ترقب وصول جيش الفتح يوم الفتح فلا يتمكن من الحديث مع من يوصونه بأهليهم . والتوصية : مصدر وصى المضاعف وتنكيرها للتقليل ، أي لا يستطيعون توصية ما . [ ص: 36 ] وقوله ولا إلى أهلهم يرجعون يجوز أن تكون عطفا على " توصية " ، أي لا يستطيعون الرجوع إلى أهلهم كشأن الذي يفاجئه ذعر فيبادر بافتقاد حال أهله من ذلك .
ويجوز أن يكون عطفا على جملة لا يستطيعون فيكون مما شمله التفريع بالفاء ، أي فلا يرجعون إلى أهلهم ، أي هم هالكون على الاحتمالين ، إلا أنه على احتمال أن يراد صيحة الحرب يخصص ضمير " يرجعون " بكبراء قريش الذين هلكوا يوم بدر لأنهم هم المتولون كبر التكذيب والعناد ، أو الذين أكملوا بالهلاك يوم الفتح مثل عبد الله بن خطل الذي قتل يوم الفتح .