يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما بعد أن نهى الله المسلمين عما يؤذي النبيء - صلى الله عليه وسلم - وربأ بهم عن أن يكونوا مثل [ ص: 122 ] الذين آذوا رسولهم وجه إليهم بعد ذلك نداء بأن يتسموا بالتقوى وسداد القول لأن فائدة النهي عن المناكر التلبس بالمحامد ، والتقوى جماع الخير في العمل والقول . والقول السديد مبث الفضائل .
وابتداء الكلام بنداء الذين آمنوا للاهتمام به واستجلاب الإصغاء إليه . ونداؤهم بالذين آمنوا لما فيه من الإيماء إلى أن الإيمان يقتضي ما سيؤمرون به . ففيه تعريض بأن ليسوا من المؤمنين في باطن الأمر ولكنهم منافقون ، وتقديم الأمر بالتقوى مشعر بأن ما سيؤمرون به من الذين يصدر منهم ما يؤذي النبيء - صلى الله عليه وسلم - قصدا كما هو من شعب الإيمان . سديد القول هو من شعب التقوى
والقول : الكلام الذي يصدر من فم الإنسان يعبر عما في نفسه .
والسديد : الذي يوافق السداد . والسداد : الصواب والحق ومنه تسديد السهم نحو الرمية ، أي عدم العدول به عن سمتها بحيث إذا اندفع أصابها ، فشمل القول السديد الأقوال الواجبة والأقوال الصالحة النافعة مثل ابتداء السلام وقول المؤمن للمؤمن الذي يحبه : إني أحبك .
والقول يكون بابا عظيما من أبواب الخير ويكون كذلك من أبواب الشر . وفي الحديث ، وفي الحديث الآخر : وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم
رحم الله امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم ، وفي الحديث الآخر :
. من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
ويشمل القول السديد ما هو تعبير عن إرشاد من أقوال الأنبياء والعلماء والحكماء ، وما هو تبليغ لإرشاد غيره من مأثور أقوال الأنبياء والعلماء . فقراءة القرآن على الناس من القول السديد ، ورواية حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من القول السديد . وفي الحديث : وكذلك نشر أقوال الصحابة والحكماء وأيمة الفقه . ومن القول السديد تمجيد الله والثناء عليه مثل التسبيح . ومن القول السديد الآذان والإقامة قال تعالى نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها إليه يصعد الكلم الطيب في سورة فاطر . فبالقول السديد تشيع الفضائل والحقائق بين الناس فيرغبون في التخلق بها ، وبالقول السيئ تشيع الضلالات والتمويهات [ ص: 123 ] فيغتر الناس بها ويحسبون أنهم يحسنون صنعا . والقول السديد يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولما في جعل للآتي بهما جزاء بإصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب . وهو نشر على عكس اللف ، فإصلاح الأعمال جزاء على القول السديد لأن أكثر ما يفيده القول السديد إرشاد الناس إلى الصلاح أو اقتداء الناس بصاحب القول السديد . التقوى والقول السديد من وسائل الصلاح
وغفران الذنوب جزاء على التقوى لأن عمود التقوى اجتناب الكبائر وقد غفر الله للناس الصغائر باجتناب الكبائر وغفر لهم الكبائر بالتوبة ، والتحول عن المعاصي بعد الهم بها ضرب من مغفرتها .
ثم إن ضميري جمع المخاطب لما كانا عائدين على الذين آمنوا كانا عامين لكل المؤمنين في عموم الأزمان سواء كانت الأعمال أعمال القائلين قولا سديدا أو أعمال غيرهم من المؤمنين الذين يسمعون أقوالهم فإنهم لا يخلون من فريق يتأثر بذلك القول فيعملون بما يقتضيه على تفاوت بين العاملين ، وبحسب ذلك التفاوت يتفاوت صلاح أعمال القائلين قولا سديدا والعاملين به من سامعيه ، وكذلك أعمال الذي قال القول السديد في وقت سماعه قول غيره . وفي الحديث :
، فظهر أن إصلاح الأعمال متفاوت وكيفما كان فإن صلاح المعمول من آثار سداد القول ، وكذلك فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه لأن من التقوى الانكفاف عن مشاركة أهل المعاصي في معاصيهم فيحصل بذلك انكفاف كثير منهم عن معاصيهم تأسيا أو حياء فتتعطل بعض المعاصي ، وذلك ضرب من الغفران فإن اقتدى فاهتدى فالأمر أجدر . التقوى تكون سببا لمغفرة ذنوب المتقي ومغفرة ذنوب غيره
وذكر ( لكم ) مع فعلي ( يصلح ) و ( يغفر ) للدلالة على العناية بالمتقين أصحاب القول السديد كما في قوله تعالى ألم نشرح لك صدرك .
وجملة ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما عطف على جملة يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم أي وتفوزوا فوزا عظيما إذا أطعتم [ ص: 124 ] الله بامتثال أمره . وإنما صيغت الجملة في صيغة الشرط وجوابه لإفادة العموم في المطيعين وأنواع الطاعات فصارت الجملة بهذين العمومين في قوة التذييل . وهذا نسج من نظم الكلام وهو إفادة غرضين بجملة واحدة .