وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا " .
معظم الروايات على أن هذه الآية نزلت في شأن خطبة على زينب بنت جحش . قال زيد بن حارثة : ابن عباس انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب على فتاه زيد بن حارثة فاستنكفت وأبت وأبى أخوها زينب بنت جحش عبد الله بن جحش فأنزل الله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة الآية ، فتابعته ورضيت ؛ لأن تزويج زينب بزيد بن حارثة كان قبل الهجرة فتكون هذه الآية نزلت بمكة ، ويكون موقعها في هذه السورة التي هي مدنية إلحاقا لها بها لمناسبة أن تكون مقدمة لذكر تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زينب الذي يظهر أنه وقع بعد وقعة الأحزاب ، وقد علم الله ذلك من قبل فقدر له الأحوال التي حصلت من بعد .
ووجود واو العطف في أول الجملة يقتضي أنها معطوفة على كلام نزل قبلها من سورة أخرى لم نقف على تعيينه ولا تعيين السورة التي كانت الآية فيها ، وهو عطف جملة على جملة لمناسبة بينهما .
وروي عن أن سبب نزول هذه الآية جابر بن زيد أن وكانت أول من هاجرن من النساء ، وأنها وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فزوجها من أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط بعد أن طلق زيد بن حارثة ، زيد كما سيأتي قريبا [ ص: 27 ] فكرهت هي وأخوها ذلك وقالت : إنما أردت رسول الله فزوجني عبده ، ثم رضيت هي وأخوها بعد نزول الآية زينب بنت جحش .
والمناسبة تعقيب الثناء على أهل خصال هي من طاعة الله ، بإيجاب طاعة الله والرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما أعقب ذلك بما في الاتصاف بما هو من أمر الله مما يكسب موعوده من المغفرة والأجر ، وسوى في ذلك بين النساء والرجال ، أعقبه ببيان أن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يأمر به ويعتزم الأمر هي طاعة واجبة وأنها ملحقة بطاعة الله ، وأن صنفي الناس الذكور والنساء في ذلك سواء كما كانا سواء في الأحكام الماضية .
وإقحام ( كان ) في النفي أقوى دلالة على انتفاء الحكم لأن فعل كان لدلالته على الكون ، أي الوجود يقتضي نفيه انتفاء الكون الخاص برمته كما تقدم غير مرة .
والمصدر المستفاد من أن تكون لهم الخيرة في محل رفع اسم ( كان ) المنفية وهي ( كان ) التامة .
وقضاء الأمر : تبيينه والإعلام به : قال تعالى وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين .
ومعنى إذا قضى الله ورسوله إذا عزم أمره ولم يجعل للمأمور خيارا في الامتثال ، فهذا الأمر هو الذي يجب على المؤمنين امتثاله احترازا من نحو قوله للذين وجدهم يأبرون نخلهم : . ومن نحو ما تقدم في أول السورة من همه بمصالحة الأحزاب على نصف ثمر لو تركتموها لصلحت ، ثم قالوا : تركناها فلم تصلح ، فقال : أنتم أعلم بأمور دنياكم المدينة ثم رجوعه عن ذلك لما استشار السعدين ، ومن نحو أمره يوم بدر بالنزول بأدنى ماء من بدر فقال له الحباب بن المنذر : أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة . قال : فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء فنشرب ولا يشربون . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد أشرت بالرأي ، فنهض بالناس . وفي الحديث : انزل فاجدح لنا ، فقال : يا رسول الله لو أمسيت . ثم قال : انزل فاجدح لنا ، فقال : يا رسول الله لو أمسيت إن عليك نهارا ثم قال : انزل فاجدح ، فنزل فجدح له في الثالثة فشرب لبلال . فمراجعة أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر [ ص: 28 ] وكان صائما فلما غربت الشمس قال بلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل أنه علم أن الأمر غير عزم .
وذكر اسم الجلالة هنا للإيماء إلى أن طاعة الرسول - عليه الصلاة والسلام - طاعة لله ، قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله . فالمقصود إذا قضى رسول الله أمرا كما تقدم في قوله تعالى فإن لله خمسه وللرسول في سورة الأنفال إذ المقصود : فإن للرسول خمسه .
والخيرة : اسم مصدر تخير كالطيرة اسم مصدر تطير . قيل ولم يسمع في هذا الوزن غيرهما ، وتقدم في قوله تعالى ما كان لهم الخيرة في سورة القصص .
و ( من ) : تبعيضية . و أمرهم بمعنى شأنهم وهو جنس ، أي أمورهم . والمعنى : ما كان اختيار بعض شئونهم ملكا يملكونه بل يتعين عليهم اتباع ما قضى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا خيرة لهم .
و ( مؤمن ومؤمنة ) لما وقعا في حيز النفي يعمان جميع المؤمنين والمؤمنات فلذلك جاء ضميرها ضمير جمع لأن المعنى : ما كان لجمعهم ولا لكل واحد منهم الخيرة كما هو شأن العموم .
وقرأ الجمهور " أن تكون " بمثناة فوقية لأن فاعله مؤنث لفظا . وقرأه عاصم ، وحمزة ، ، والكسائي وخلف ، وهشام ، بتحتية لأن الفاعل المؤنث غير الحقيقي يجوز في فعله التذكير ، ولا سيما إذا وقع الفصل بين الفعل وفاعله . وابن عمر
وقوله ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا تذييل تعميم للتحذير من مخالفة الرسول - عليه الصلاة والسلام - سواء فيما هو فيه الخيرة أم كان عن عمد للهوى في المخالفة .