يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون
جملة ( يدبر الأمر ) في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله تعالى الله الذي خلق السماوات والأرض ، أي خلق تلك الخلائق مدبرا أمرها . ويجوز أن تكون الجملة استئنافا ، وقوله ( من السماء ) متعلق بـ ( يدبر ) أو صفة للأمر أو حال منه ، ومن ابتدائية ، والمقصود من حرفي الابتداء والانتهاء شمول تدبير الله تعالى الأمور كلها في العالمين العلوي والسفلي تدبيرا شاملا لها من السماء إلى الأرض ، فأفاد حرف الانتهاء شمول التدبير لأمور كل ما في السماوات والأرض وفيما بينهما .
والتدبير : حقيقته التفكير في إصدار فعل متقن أوله وآخره ، وهو مشتق من دبر الأمر ، أي آخره لأن التدبير النظر في استقامة الفعل ابتداء ونهاية . وهو إذا وصف به الله تعالى كناية عن لازم حقيقته وهو تمام الإتقان ، وتقدم شيء من هذا في أول سورة يونس وأول سورة الرعد .
والأمر : الشأن للأشياء ونظامها وما به تقومها . والتعريف فيه للجنس وهو مفيد لاستغراق الأمور كلها لا يخرج عن تصرفه شيء منها ، فجميع ما نقل عن سلف المفسرين في تفسير الأمر يرجع إلى بعض هذا العموم .
والعروج : الصعود . وضمير يعرج عائد على الأمر ، وتعديته بحرف الانتهاء مفيدة أن تلك الأمور المدبرة تصعد إلى الله تعالى; فالعروج هنا مستعار للمصير إلى تصرف الخالق دون شائبة تأثير من غيره ولو في الصورة كما في أحوال [ ص: 213 ] الدنيا من تأثير الأسباب . ولما كان الجلال يشبه بالرفعة في مستعمل الكلام شبه المصير إلى ذي الجلال بانتقال الذوات إلى المكان المرتفع وهو المعبر عنه في اللغة بالعروج ، كما قال تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ، أي يرفعه إليه .
و ( ثم ) للتراخي الرتبي لأن مرجع الأشياء إلى تصرفه بعد صدورها من لدنه أعظم وأعجب .
وقد أفاد التركيب أن تدبير الأمور من السماء إلى الأرض من وقت خلقهما وخلق ما بينهما يستقر على ما دبر عليه كل بحسب ما يقتضيه حال تدبيره من استقراره ، ويزول بعضه ويبقى بعضه ما دامت السماوات والأرض ، ثم يجمع ذلك كله فيصير إلى الله مصيرا مناسبا لحقائقه ; فالذوات تصير مصير الذوات والأعراض والأعمال تصير مصير أمثالها ، أي يصير وصفها ووصف أصحابها إلى علم الله وتقدير الجزاء ، فذلك المصير هو المعبر عنه بالعروج إلى الله فيكون الحساب على جميع المخلوقات يومئذ .
واليوم من قوله : في يوم كان مقداره ألف سنة هو اليوم الذي جاء ذكره في آية سورة الحج بقوله : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون .
ومعنى تقديره بألف سنة أنه تحصل فيه من تصرفات الله في كائنات السماء والأرض ما لو كان من عمل الناس لكان حصول مثله في ألف سنة ، فلك أن تقدر ذلك بكثرة التصرفات ، أو بقطع المسافات ، وقد فرضت في ذلك عدة احتمالات . والمقصود : التنبيه على . ويظهر أن هذا اليوم هو يوم الساعة ، أي ساعة اضمحلال العالم الدنيوي ، وليس اليوم المذكور هنا هو يوم القيامة المذكور في سورة المعارج ؛ قاله عظم القدرة وسعة ملكوت الله وتدبيره . ابن عباس
ولم يعين واحدا منهما ، وليس من غرض القراء تعيين أحد اليومين ولكن حصول العبرة بأهوالهما .
وقوله " في يوم " يتنازعه كل من فعلي " يدبر " و " يعرج " ، أي يحصل الأمران في يوم .
[ ص: 214 ] و ( ألف ) عند العرب منتهى أسماء العدد وما زاد على ذلك من المعدودات يعبر عنه بأعداد أخرى مع عدد الألف كما يقولون خمسة آلاف ، ومائة ألف ، وألف ألف .
و ( ألف ) يجوز أن يستعمل كناية عن الكثرة الشديدة كما يقال : زرتك ألف مرة ، وقوله تعالى : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وهو هنا بتقدير كاف التشبيه أو كلمة نحو ، أي كان مقداره كألف سنة أو نحو ألف سنة كما في قوله وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون .
ويجوز أن يكون ( ألف ) مستعملا في صريح معناه . وقوله : " مما تعدون " ، أي مما تحسبون في أعدادكم ، و ( ما ) مصدرية أو موصولية وهو وصف لـ " ألف سنة " . وهذا الوصف لا يقتضي كون اسم ألف مستعملا في صريح معناه لأنه يجوز أن يكون إيضاحا للتشبيه فهو قريب من ذكر وجه الشبه مع التشبيه ، وقد يترجح أن هذا الوصف لما كان في معنى الموصوف صار بمنزلة التأكيد اللفظي لمدلوله فكان رافعا لاحتمال المجاز في العدد .