وهو العزيز الحكيم وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض تقدم نظير صدر هذه الآية في هذه السورة وأعيد هنا ليبنى عليه قوله وهو أهون عليه تكملة للدليل إذ لم تذكر هذه التكملة هناك .
فهذا ابتداء بتوجيه الكلام إلى المشركين لرجوعه إلى نظيره المسوق إليهم . وهذا أشبه بالتسليم الجدلي في المناظرة ، ذلك لأنهم لما اعترفوا بأن الله هو بادئ خلق الإنسان ، وأنكروا إعادته بعد الموت ، واستدل عليهم هنالك بقياس المساواة ، ولما كان إنكارهم الإعادة بعد الموت متضمنا تحديد مفعول القدرة الإلهية جاء التنازل في الاستدلال إلى أن تحديد مفعول القدرة لو سلم لهم لكان يقتضي إمكان البعث بقياس الأحرى فإن إعادة المصنوع مرة ثانية أهون على الصانع من صنعته الأولى وأدخل تحت تأثير قدرته فيما تعارفه الناس في مقدوراتهم .
فقوله ( أهون ) اسم تفضيل ، وموقعه موقع الكلام الموجه ، فظاهره أن ( أهون ) مستعمل في معنى المفاضلة على طريقة إرخاء العنان والتسليم الجدلي ، أي الخلق الثاني أسهل من الخلق الأول ، وهذا في معنى قوله تعالى أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد . ومراده : أن إعادة الخلق مرة ثانية مساوية لبدء الخلق في تعلق القدرة الإلهية ، فتحمل صيغة التفضيل على معنى قوة الفعل المصوغة له كقوله قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه .
[ ص: 84 ] وللإشارة إلى أن قوله وهو أهون عليه مجرد تقريب لأفهامهم عقب بقوله وله المثل الأعلى في السماوات والأرض أي ثبت له واستحق الشأن الأتم الذي لا يقاس بشئون الناس المتعارفة وإنما لقصد التقريب لأفهامكم .
والأعلى : معناه الأعظم البالغ نهاية حقيقة العظمة والقوة . قال حجة الإسلام في الإحياء : لا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء الشمس ولكنهم ينالون منها ما تحيا به أبصارهم وقد تأنق بعضهم في التعبير عن وجه اللطف في إيصال معاني الكلام المجيد إلى فهم الإنسان لعلو درجة الكلام المجيد وقصور رتبة الأفهام البشرية فإن الناس إذا أرادوا أن يفهموا الدواب ما يريدون من تقديمها وتأخيرها ونحوه ورأوها تقصر عن فهم الكلام الصادر عن العقول مع حسنه وترتيبه نزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إليها بأصوات يضعونها لائقة بها من الصفير ونحوه من الأصوات القريبة من أصواتها اهــ .
وقوله في السماوات والأرض صفة للمثل أو حال منه ، أي كان استحقاقه المثل الأعلى مستقرا في السماوات والأرض ، أي في كائنات السماوات والأرض ، فالمراد : أهلها ، على حد واسأل القرية ، أي هو موصوف بأشرف الصفات وأعظم الشئون على ألسنة العقلاء وهي الملائكة والبشر المعتد بعقولهم ولا اعتداد بالمعطلين منهم لسخافة عقولهم وفي دلائل الأدلة الكائنة في السماوات وفي الأرض ، فكل تلك الأدلة شاهدة بأن لله المثل الأعلى .
ومن جملة المثل الأعلى عزته وحكمته تعالى ; فخصا بالذكر هنا لأنهما الصفتان اللتان تظهر آثارهما في الغرض المتحدث عنه وهو بدء الخلق وإعادته ; فالعزة تقتضي الغنى المطلق فهي تقتضي تمام القدرة . والحكمة تقتضي عموم العلم . ومن آثار القدرة والحكمة أنه يعيد الخلق بقدرته وأن الغاية من ذلك الجزاء وهو من حكمته .