ابتداء كلام للتنويه بشأن محمد - صلى الله عليه وسلم - وتثبيت فؤاده ووعده بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة ، وإن إنكار أهل الضلال رسالته لا يضيره ؛ لأن الله أعلم بأنه على [ ص: 192 ] هدى وأنهم على ضلال بعد أن قدم لذلك من أحوال رسالة موسى عليه السلام ما فيه عبرة بالمقارنة بين حالي الرسولين وما لقياه من المعرضين .
وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام به .
وجيء بالمسند إليه اسم موصول دون اسمه تعالى العلم ؛ لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر ، وأنه خبر الكرامة والتأييد ، أي أن الذي أعطاك القرآن ما كان إلا مقدرا نصرك وكرامتك ; لأن إعطاء القرآن شيء لا نظير له ، فهو دليل على كمال عناية الله بالمعطى . قال كعب بن زهير :
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ قرآن فيها مواعيظ وتفصـيل
وفيه إيماء إلى تعظيم شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - .ومعنى فرض عليك القرآن اختاره لك ، من قولهم : فرض له كذا ، إذا عين له فرضا ، أي نصيبا . ولما ضمن " فرض " معنى أنزل - لأن فرض القرآن هو إنزاله - عدي " فرض " بحرف " على " .
والرد : إرجاع شيء إلى حاله أو مكانه . والمعاد : اسم مكان العود ، أي الأول كما يقتضيه حرف الانتهاء . والتنكير في " معاد " للتعظيم كما يقتضيه مقام الوعد والبشارة ، وموقعهما بعد قوله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، أي إلى معاد أي معاد .
والمعاد يجوز أن يكون مستعملا في معنى آخر أحوال الشيء وقراره الذي لا انتقال منه ؛ تشبيها بالمكان العائد إليه بعد أن صدر منه ، أو كناية عن الأخارة فيكون مرادا به الحياة الآخرة . قال ابن عطية : وقد ؛ لأنه معاد الكل اهـ . أي فأبشر بما تلقى في معادك من الكرامة التي لا تعادلها كرامة ، والتي لا تعطى لأحد غيرك . فتنكير معاد أفاد أنه عظيم الشأن ، وترتبه على الصلة أفاد أنه لا يعطى لغيره مثله كما أن القرآن لم يفرض على أحد مثله . اشتهر يوم القيامة بالمعاد
ويجوز أن يراد بالمعاد معناه المشهود القريب من الحقيقة . وهو ما يعود إليه المرء إن غاب عنه ، فيراد هنا بلده الذي كان به وهو مكة . وهذا الوجه يقتضي أنه كناية عن خروجه منه ثم عوده إليه ؛ لأن الرد يستلزم المفارقة . وإذ قد كانت السورة [ ص: 193 ] مكية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة فالوعد بالرد كناية عن الخروج منه قبل أن يرد عليه . وقد كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أري في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل ، وكان قال له البخاري ورقة بن نوفل : يا ليتني أكون معك إذ يخرجك قومك ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ، فما كان ذلك كله ليغيب عن علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه قد قيل : إن هذه الآية نزلت عليه وهو في الجحفة في طريقه إلى الهجرة كما تقدم في أول السورة ، فوعد بالرد عليها وهو دخوله إليها فاتحا لها ومتمكنا منها . فقد روي عن تفسير المعاد بذلك ، وكلا الوجهين يصح أن يكون مرادا على ما تقرر في المقدمة التاسعة . ابن عباس
ثم تكون جملة قل ربي أعلم من جاء بالهدى بالنسبة إلى الوجه الأول بمنزلة التفريع على جملة لرادك إلى معاد ، أي رادك إلى يوم المعاد ، فمظهر المهتدي والضالين ، فيكون علم الله بالمهتدي والضال مكنى به عن اتضاح الأمر بلا ريب ؛ لأن علم الله تعالى لا يعتريه تلبيس ، وتكون هذه الكناية تعريضا بالمشركين أنهم الضالون . وأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - هو المهتدي .
ولهذه النكتة عبر عن جانب المهتدي بفعل من جاء ؛ للإشارة إلى أن المهتدي هو الذي جاء بهدي لم يكن معروفا من قبل كما يقتضيه : جاء بكذا ، وعبر عن جانب الضالين بالجملة الاسمية المقتضية ثبات الضلال المشعر بأن الضلال هو أمرهم القديم الراسخ فيهم مع ما أفاده حرف الظرفية من انغماسهم في الضلال وإحاطته بهم . ويكون المعنى حينئذ على حد قوله تعالى : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين لظهور أن المبلغ لهذا الكلام لا يفرض في حقه أن يكون هو الشق الضال ، فيتعين أن الضال من خالفه .
وبالنسبة إلى الوجه الثاني تكون بمنزلة الموادعة والمتاركة وقطع المجادلة . فالمعنى : عد عن إثبات هداك وضلالهم ، وكلهم إلى يوم ردك إلى معادك ، يوم يتبين أن الله نصرك وخذلهم . وعلى المعنيين فجملة قل ربي أعلم مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة إن الذي فرض عليك القرآن جوابا لسؤال سائل يثيره أحد المعنيين .
[ ص: 194 ] وفي تقديم جملة إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد على جملة قل ربي أعلم من جاء بالهدى إعداد لصلاحية الجملة الثانية للمعنيين المذكورين . فهذا من الدلالة على معاني الكلام بمواقعه وترتيب نظامه ، وتقديم الجمل عن مواضع تأخيرها لتوفير المعاني .
وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك
عطف على جملة : إن الذي فرض عليك القرآن إلخ باعتبار ما تضمنته من الوعد بالثواب الجزيل أو بالنصر المبين ، أي كما حملك تبليغ القرآن فكان ذلك علامة على أنه أعد لك الجزاء بالنصر في الدنيا والآخرة - كذلك إعطاؤه إياك الكتاب عن غير ترقب منك ، بل بمحض رحمة ربك ، أي هو كذلك في أنه علامة لك على أن الله لا يترك نصرك على أعدائك ، فإنه ما اختارك لذلك إلا لأنه أعد لك نصرا مبينا وثوابا جزيلا .
وهذا أيضا من دلالة الجملة على معنى غير مصرح به ، بل على معنى تعريضي بدلالة موقع الجملة .
وإلقاء الكتاب إليه وحيه به إليه . أطلق عليه اسم الإلقاء على وجه الاستعارة كما تقدم في قوله تعالى : فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم في سورة النحل .
والاستثناء في إلا رحمة من ربك استثناء منقطع ؛ لأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يخامر نفسه رجاء أن يبعثه الله بكتاب من عنده بل كان ذلك مجرد رحمة من الله تعالى به واصطفاء له .