وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة
هذا من تمام الاعتراض ، وهي جملة فأما من تاب وآمن وعمل صالحا وظاهر عطفه على ما قبله أن معناه آيل إلى التفويض إلى حكمة الله تعالى في خلق قلوب منفتحة للاهتداء ولو بمراحل ، وقلوب غير منفتحة له فهي قاسية صماء ، وأنه الذي اختار فريقا على فريق . وفي " أسباب النزول " للواحدي : قال أهل التفسير : نزلت جوابا للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله عنه وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم اهــ . يعنون بذلك الوليد بن المغيرة من أهل مكة وعروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف . وهما المراد بالقريتين . وتبعه الزمخشري وابن عطية . فإذا كان اتصال معناها بقوله : ماذا أجبتم المرسلين ، فإن قولهم : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم هو من جملة ما أجابوا به دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمعنى : أن الله يخلق ما يشاء من خلقه من البشر وغيرهم ، ويختار من بين مخلوقاته لما يشاء مما يصلح له جنس ما منه الاختيار ، ومن ذلك اختياره للرسالة من يشاء إرساله ، وهذا في معنى قوله : " الله أعلم حيث يجعل رسالاته " ، وأن ليس ذلك لاختيار الناس ورغباتهم ; والوجهان لا يتزاحمان .
والمقصود من الكلام هو قوله : " ويختار " ، فذكر يخلق ما يشاء إيماء إلى أنه أعلم بمخلوقاته .
وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي يفيد القصر في هذا المقام إن لوحظ سبب النزول ، أي ربك وحده ، لا أنتم تختارون من يرسل إليكم .
وجوز أن يكون " ما " من قوله : ما كان لهم الخيرة موصولة مفعولا لفعل [ ص: 165 ] " يختار " ، وأن عائد الموصول مجرور بـ " في " محذوفين . والتقدير : ويختار ما لهم فيه الخير ، أي يختار لهم من الرسل ما يعلم أنه صالح بهم لا ما يشتهونه من رجالهم .
وجملة ما كان لهم الخيرة استئناف مؤكد لمعنى القصر ؛ لئلا يتوهم أن الجملة قبله مفيدة مجرد التقوي . وصيغة " ما كان " تدل على نفي للكون يفيد أشد مما يفيد لو قيل : ما لهم الخيرة ، كما تقدم في قوله تعالى : وما كان ربك نسيا في سورة مريم .
والابتداء بقوله : وربك يخلق ما يشاء تمهيد للمقصود وهو قوله : ويختار ما كان لهم الخيرة أي كما أن الخلق من خصائصه فكذلك الاختيار .
والخيرة - بكسر الخاء وفتح التحتية - : اسم لمصدر الاختيار ، مثل الطيرة ، اسم لمصدر التطير . قال ابن الأثير : ولا نظير لهما . وفي " اللسان " ما يوهم أن نظيرهما : سبي طيبة ، إذا لم يكن فيه غدر ولا نقض عهد . ويحتمل أنه أراد التنظير في الزنة لا في المعنى ؛ لأنها زنة نادرة .
واللام في " لهم " للملك ، أي ما كانوا يملكون اختيارا في المخلوقات حتى يقولوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم . ونفي الملك عنهم مقابل لقوله : " ما يشاء " ؛ لأن " ما يشاء " يفيد معنى ملك الاختيار .
وفي ذكر الله تعالى بعنوان كونه ربا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - إشارة إلى أنه اختاره لأنه ربه وخالقه ، فهو قد علم استعداده لقبول رسالته .