لما سفه قولهم في القرآن : إنه قول كاهن ، فرد عليهم بقوله : وما تنزلت به الشياطين وأنه لا ينبغي للشياطين ولا يستطيعون مثله ، وأنهم حيل بينهم وبين أخبار أوليائهم ، عاد الكلام إلى وصف حال كهانهم ليعلم أن الذي رموا به القرآن لا ينبغي أن يتلبس بحال أوليائهم . فالجملة متصلة في المعنى بجملة هل أنبئكم على من تنزل الشياطين .
وألقي الكلام إليهم في صورة استفهام عن أن يعرفهم بمن تتنزل عليه الشياطين ، استفهاما فيه تعريض بأن المستفهم عنه مما يسوءهم لذلك يحتاج فيه إلى إذنهم بكشفه .
وهذا الاستفهام صوري مستعمل كناية عن كون الخبر مما يستأذن في الإخبار به . واختير له حرف الاستفهام الدال على التحقيق وهو ( هل ) ; لأن هل في الاستفهام بمعنى ( قد ) والاستفهام مقدر فيها بهمزة استفهام ، فالمعنى : أنبئكم إنباء ثابتا محققا وهو استفهام لا يترقب منه جواب المستفهم ; لأنه ليس بحقيقي فلذلك يعقبه الإفضاء بما استفهم عنه قبل الإذن من السامع . ونظيره في الجواب قوله تعالى : عم يتساءلون عن النبأ العظيم وإن كان بين الاستفهامين فرق .
وفعل ( أنبئكم ) معلق عن العمل بالاستفهام في قوله : على من تنزل الشياطين . وهو أيضا استفهام صوري معناه الخبر كناية عن أهمية الخبر بحيث إنه مما يستفهم عنه المتحسسون ويتطلبونه ، فالاستفهام من لوازم الاهتمام .
والمجرور مقدم على عامله للاهتمام بالمتنزل عليه . وأصل التركيب : فلما قدم المجرور دخل حرف ( على ) على اسم الاستفهام وهو ( من ) ; لأن ماصدقها هو المتنزل عليه ، ولا يعكر عليه أن المتعارف أن يكون الاستفهام في صدر الكلام ؛ لأن أسماء الاستفهام تضمنت معنى الاسمية وهو أصلها ، وتضمنت معنى همزة الاستفهام كما تضمنته ( هل ) ، فإذا لزم مجيء حرف الجر مع [ ص: 206 ] أسماء الاستفهام ترجح فيها جانب الاسمية فدخل الحرف عليها ولم تقدم هي عليه ، فلذلك تقول : أعلى زيد مررت ؟ ولا تقول : من على مررت ؟ وإنما تقول : على من مررت ؟ وكذا في بقية أسماء الاستفهام نحو من تنزل عليه الشياطين عم يتساءلون ، من أي شيء خلقه ، وقولهم : علام ، وإلام ، وحتام ، و فيم أنت من ذكراها .
وأجيب الاستفهام هنا بقوله تنزل على كل أفاك أثيم .
و ( كل ) هنا مستعملة في معنى التكثير ، أي : على كثير من الأفاكين وهم الكهان ، قال النابغة :
وكل صموت نثلة تبـعـية ونسج سليم كل قمصاء ذائل
والأفاك كثير الإفك ، أي : الكذب ، والأثيم كثير الإثم . وإنما كان الكاهن أثيما ; لأنه يضم إلى كذبه تضليل الناس بتمويه أنه لا يقول إلا صدقا ، وأنه يتلقى الخبر من الشياطين التي تأتيه بخبر السماء .
وجعل للشياطين ( تنزل ) ; لأن اتصالها بنفوس الكهان يكون بتسلسل تموجات في الأجواء العليا كما تقدم في سورة الحجر .
و ( يلقون السمع ) صفة ل ( كل أفاك أثيم ) ، أي : يظهرون أنهم يلقون أسماعهم عند مشاهدة كواكب لتتنزل عليهم شياطينهم بالخبر وذلك من إفكهم وإثمهم .
وإلقاء السمع : هو شدة الإصغاء حتى كأنه إلقاء للسمع من موضعه ، شبه توجيه حاسة السمع إلى المسموع الخفي بإلقاء الحجر من اليد إلى الأرض أو في الهواء قال تعالى : أو ألقى السمع وهو شهيد ، أي : أبلغ في الإصغاء ليعي ما يقال له .
وهذا كما أطلق عليه إصغاء ، أي : إمالة السمع إلى المسموع .
وقوله : ( وأكثرهم كاذبون ) أي : أكثر هؤلاء الأفاكين كاذبون فيما يزعمون أنهم تلقوه من الشياطين وهم لم يتلقوا منها شيئا ، أي : وبعضهم يتلقى شيئا قليلا من الشياطين فيكذب عليه أضعافه .
[ ص: 207 ] ففي الحديث الصحيح . فهم أفاكون وهم متفاوتون في الكذب ، فمنهم أفاكون فيما يزيدونه على خبر الجن ، ومنهم أفاكون في أصل تلقي شيء من الجن ، ولما كان حال الكهان قد يلتبس على ضعفاء العقول ببعض أحوال النبوءة في الإخبار عن غيب ، وأسجاعهم قد تلتبس بآيات القرآن في بادئ النظر . أطنبت الآية في بيان ماهية الكهانة وبينت أن قصاراها الإخبار عن أشياء قليلة قد تصدق ، فأين هذا من هدي النبيء والقرآن وما فيه من الآداب والإرشاد والتعليم والبلاغة والفصاحة والصراحة والإعجاز ولا تصدي منه للإخبار بالمغيبات . كما قال : ( ولا أعلم الغيب ) في آيات كثيرة من هذا المعنى . أن النبيء صلى الله عليه وسلم سئل عن الكهان فقال : ليسوا بشيء . قيل : يا رسول الله فإنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا . فقال : تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون عليها أكثر من مائة كذبة