الجملة معطوفة على جملة واقتلوهم حيث ثقفتموهم التي أفادت الأمر بتتبع المقاتلين بالتقتيل حيثما حلوا ، سواء كانوا مشتبكين بقتال المسلمين أم كانوا في حالة تنقل أو تطلع أو نحو ذلك ؛ لأن أحوال المحارب لا تنضبط ، وليست في الوقت سعة للنظر في نواياه والتوسم في أغراضه ؛ إذ قد يبادر إلى اغتيال عدوه في حال تردده وتفكره ، فخص المكان الذي عند المسجد الحرام من عموم الأمكنة التي شملها قوله : حيث ثقفتموهم أي : إن ثقفتموهم عند المسجد الحرام غير مشتبكين في قتال معكم فلا تقتلوهم ، والمقصد من هذا حفظ حرمة المسجد الحرام التي جعلها الله له بقوله : مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا فاقتضت الآية منع المسلمين من قتال المشركين عند المسجد الحرام ، وتدل على منعهم من أن يقتلوا أحدا من المشركين دون قتال عند المسجد الحرام بدلالة لحن الخطاب أو فحوى الخطاب .
وجعلت غاية النهي بقوله : حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم أي : فإن قاتلوكم عند المسجد فاقتلوهم عند المسجد الحرام ؛ لأنهم خرقوا حرمة المسجد الحرام ، فلو تركت معاملتهم بالمثل لكان ذلك ذريعة إلى هزيمة المسلمين .
فإن قاتلوا المسلمين عند المسجد الحرام عاد أمر المسلمين بمقاتلتهم إلى ما كان قبل هذا النهي ، فوجب على المسلمين قتالهم عند المسجد الحرام وقتل من ثقفوا منهم كذلك .
وفي قوله تعالى : ( فاقتلوهم ) تنبيه على الإذن بقتلهم حينئذ ، ولو في غير اشتباك معهم بقتال ؛ لأنهم لا يؤمنون من أن يتخذوا حرمة المسجد الحرام وسيلة لهزم المسلمين .
ولأجل ذلك جاء التعبير بقوله : ( فاقتلوهم ) لأنه يشمل القتل بدون قتال والقتل بقتال .
فقوله تعالى : فإن قاتلوكم أي : عند المسجد الحرام فاقتلوهم هنالك ؛ أي : فاقتلوا من ثقفتم منهم حين المحاربة ، ولا يصدكم المسجد الحرام عن تقصي آثارهم ، لئلا يتخذوا المسجد الحرام ملجأ يلجئون إليه إذا انهزموا .
وقد احتار كثير من المفسرين في انتظام هذه الآيات من قوله : وقاتلوا في سبيل الله إلى قوله هنا : كذلك جزاء الكافرين حتى لجأ بعضهم إلى دعوى نسخ بعضها ببعض [ ص: 204 ] فزعم أن آيات متقارنة بعضها نسخ بعضا ؛ مع أن الأصل أن الآيات المتقارنة في السورة الواحدة نزلت كذلك ومع ما في هاته الآيات من حروف العطف المانعة من دعوى كون بعضها قد نزل مستقلا عن سابقه ، وليس هنا ما يلجئ إلى دعوى النسخ ، ومن المفسرين من اقتصر على تفسير المفردات اللغوية والتراكيب البلاغية ، وأعرض عن بيان المعاني الحاصلة من مجموع هاته الآيات . وقد المسجد الحرام ولم يعبأ بما جعله لهذا المسجد من الحرمة ؛ لأن حرمته حرمة نسبته إلى الله تعالى ، فلما كان قتال الكفار عنده قتالا لمنع الناس منه ومناواة لدينه ، فقد صاروا غير محترمين له ، ولذلك أمرنا بقتالهم هنالك تأييدا لحرمة أذن الله للمسلمين بالقتال والقتل للمقاتل عند المسجد الحرام .
وقرأ الجمهور : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ثلاثتها بألف بعد القاف ، حمزة ( ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم ) بدون ألف بعد القاف والكسائي : ، فقال وقرأ الأعمش لحمزة : أرأيت قراءتك هذه كيف يكون الرجل قاتلا بعد أن صار مقتولا ؟ فقال حمزة : إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا : قتلنا ، يريد أن الكلام على حذف مضاف من المفعول كقوله :
غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
والمعنى : ولا تقتلوا أحدا منهم حتى يقتلوا بعضكم ، فإن قتلوا بعضكم فاقتلوا من تقدرون عليه منهم ، وكذلك إسناد قتلوا إلى ضمير جماعة المشركين فهو بمعنى قتل بعضهم بعض المسلمين ؛ لأن العرب تسند فعل بعض القبيلة أو الملة أو الفرقة لما يدل على جميعها من ضمير كما هنا ، أو اسم ظاهر ، نحو : قتلتنا بنو أسد .وهذه القراءة تقتضي أن المنهي عنه القتل ، فيشمل القتل باشتباك حرب والقتل بدون ملحمة .
وقد دلت الآية بالنص على إباحة قتل المحارب إذا حارب في الحرم ، أو استولى عليه ؛ لأن الاستيلاء مقاتلة ؛ فالإجماع على أنه لو استولى على مكة عدو وقال : لا أقاتلكم وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ القتال ؛ نقله القرطبي عن ابن خويز منداد من مالكية العراق . قال ابن خويز منداد : وأما قوله : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فيجوز أن يكون منسوخا بقوله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة .
[ ص: 205 ] واختلفوا في دلالتها على جواز بدون أن يكون قتال ، وكذا قتل الكافر المحارب إذا لجأ إلى الحرم والعقوبة ، فقال الجاني إذا لجأ إلى الحرم فارا من القصاص مالك بجواز ذلك واحتج على ذلك بأن قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم الآية ، قد نسخ هاته الآية وهو قول قتادة ومقاتل بناء على تأخر نزولها عن وقت العمل بهذه الآية ، والعام المتأخر عن العمل ينسخ الخاص اتفاقا ، وبالحديث الذي رواه في الموطأ عن أنس بن مالك مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر ، فلما نزعه جاء أبو برزة فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتلوه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ، وابن خطل هذا هو عبد العزى بن خطل التيمي كان ممن أسلم ثم كفر بعد إسلامه ، وجعل دأبه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام ، فأهدر النبيء صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه فلما علم ذلك عاذ بأستار الكعبة فأمر النبيء صلى الله عليه وسلم بقتله حينئذ ، فكان قتل ابن خطل قتل حد لا قتل حرب ؛ لأن النبيء صلى الله عليه وسلم قد وضع المغفر عن رأسه وقد انقضت الساعة التي أحل الله له فيها مكة .
وبالقياس وهو أن حرمة المسجد الحرام متقررة في الشريعة فلما أذن الله بقتل من قاتل في المسجد الحرام علمنا أن العلة هي أن القتال فيه تعريض بحرمته للاستخفاف ، فكذلك عياذ الجاني به ، وبمثل قوله قال ، لكن قال الشافعي : إذا التجأ المجرم المسلم إلى الشافعي المسجد الحرام يضيق عليه حتى يخرج فإن لم يخرج جاز قتله ، وقال أبو حنيفة : لا يقتل الكافر إذا التجأ إلى الحرم إلا إذا قاتل فيه لنص هاته الآية ، وهي محكمة عنده غير منسوخة وهو قول طاوس ومجاهد ، قال ابن العربي في الأحكام : حضرت في بيت المقدس بمدرسة أبي عقبة الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة فبينا نحن كذلك إذ دخل رجل عليه أطمار فسلم سلام العلماء وتصدر في المجلس ، فقال القاضي الزنجاني : من السيد ؟ فقال : رجل من طلبة العلم بصاغان سلبه الشطار أمس ، ومقصدي هذا الحرم المقدس ، فقال القاضي الزنجاني : سلوه عن العادة في مبادرة العلماء بمبادرة أسئلتهم ، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا ، فأجاب بأنه لا يقتل ، فسئل عن الدليل فقال : قوله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قرئ : ( ولا تقتلوهم ) فالآية نص ، وإن قرئ : ( ولا تقاتلوهم ) فهي تنبيه ؛ لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا على النهي [ ص: 206 ] عن القتل ، فاعترض عليه الزنجاني منتصرا لمالك وإن لم ير مذهبهما على العادة ، فقال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : والشافعي فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فقال الصاغاني : هذا لا يليق بمنصب القاضي فإن الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن ، والتي احتججت بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول : إن العام ينسخ الخاص فأبهت القاضي الزنجاني ، وهذا من بديع الكلام ا هـ .
وجواب هذا أن العام المتأخر عن العمل بالخاص ناسخ ، وحديث ابن خطل دل على أن الآية التي في براءة ناسخة لآية البقرة ، وأما قول الحنفية وبعض المالكية : إن قتل ابن خطل كان في اليوم الذي أحل الله له فيه مكة فيدفعه أن تلك الساعة انتهت بالفتح ، وقد ثبت في ذلك الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزع حينئذ المغفر ، وذلك أمارة انتهاء ساعة الحرب . وقال ابن العربي في الأحكام : الكافر إذا لم يقاتل ولم يجن جناية ولجأ إلى الحرم فإنه لا يقتل ، يريد أنه لا يقتل القتل الذي اقتضته آية : واقتلوهم حيث ثقفتموهم وهو مما شمله قوله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام .
وقوله : كذلك جزاء الكافرين والإشارة إلى القتل المأخوذ من قوله : ( فاقتلوهم ) أي : كذلك القتل جزاؤهم على حد ما تقدم في قوله : وكذلك جعلناكم أمة وسطا ونكتة الإشارة تهويله ؛ أي : لا يقل جزاء المشركين عن القتل ولا مصلحة في الإبقاء عليهم ، وهذا تهديد لهم ، فقوله : ( كذلك ) خبر مقدم للاهتمام ، وليست الإشارة إلى وقاتلوا في سبيل الله لأن المقاتلة ليست جزاء ؛ إذ لا انتقام فيها ، بل القتال سجال يوما بيوم .
وقوله : فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم أي : فإن انتهوا عن قتالكم فلا تقتلوهم ؛ لأن الله غفور رحيم ، فينبغي أن يكون الغفران سنة المؤمنين ، فقوله : فإن الله غفور رحيم جواب الشرط وهو إيجاز بديع ؛ إذ كل سامع يعلم أن وصف الله بالمغفرة والرحمة لا يترتب على الانتهاء ، فيعلم أنه تنبيه لوجوب المغفرة لهم إن انتهوا بموعظة وتأييد للمحذوف ، وهذا من إيجاز الحذف .
والانتهاء : أصله مطاوع " نهى " ، يقال : نهاه فانتهى ، ثم توسع فيه ، فأطلق على الكف عن عمل [ ص: 207 ] أو عن عزم ؛ لأن النهي هو طلب ترك فعل ، سواء كان الطلب بعد تلبس المطلوب بالفعل أو قبل تلبسه به قال النابغة :
لقد نهيت بني ذبيان عن أقر وعن تربعهم في كل إصفار