لما جرى وصف الله تعالى بالرحمن مع صفات أخر استطرد ذكر كفر المشركين بهذا الوصف . وقد علمت عند الكلام على البسملة في أول هذا التفسير أن وصف الله تعالى باسم ( الرحمن ) هو من وضع القرآن ولم يكن معهودا للعرب ، وأما قول شاعر اليمامة في مدح مسيلمة :
[ ص: 62 ]
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبـا وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
فذلك بعد ظهور الإسلام في مدة الردة ، ولذلك لما سمعوه من القرآن أنكروه قصدا بالتورك على النبيء - صلى الله عليه وسلم - وليس ذلك عن جهل بمدلول هذا الوصف ولا بكونه جاريا على مقاييس لغتهم ولا أنه إذا وصف الله به فهو رب واحد وأن التعدد في الأسماء ؛ فكانوا يقولون : انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو الله ويدعو الرحمن . وفي ذلك نزل قوله تعالى : ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ) . وقد تقدم في آخر سورة الإسراء . وهذه الآية تشير إلى آية سورة الإسراء .والخبر هنا مستعمل كناية في التعجيب من عنادهم وبهتانهم ، وليس المقصود إفادة الإخبار عنهم بذلك ؛ لأنه أمر معلوم من شأنهم .
والسجود الذي أمروا به سجود الاعتراف له بالوحدانية وهو شعار الإسلام ، ولم يكن السجود من عبادتهم وإنما كانوا يطوفون بالأصنام ، وأما سجود الصلاة التي هي من قواعد الإسلام فليس مرادا هنا إذ لم يكونوا ممن يؤمر بالصلاة ، ولا فائدة في تكليفهم بها قبل أن يسلموا . ويدل لذلك حديث حين أرسله النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ بن جبل اليمن فأمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ثم قال : إلخ . ومسألة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة لا طائل تحتها . تكليف الكفار بفروع الشريعة
وواو العطف في قولهم ( وما الرحمن ) لعطفهم الكلام الذي صدر منهم على الكلام الذي وجه إليهم في أمرهم بالسجود للرحمن ، على طريقة دخول العطف بين كلامي متكلمين كما في قوله تعالى : ( قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي ) . و ( ما ) من قوله ( وما الرحمن ) استفهامية .
والاستفهام مستعمل في الاستغراب ، يعنون تجاهل هذا الاسم ، ولذلك استفهموا عنه بما دون ( من ) باعتبار السؤال عن معنى هذا الاسم .
والاستفهام في ( أنسجد لما تأمرنا ) إنكار وامتناع ، أي : لا نسجد لشيء [ ص: 63 ] تأمرنا بالسجود له على أن ( ما ) نكرة موصوفة ، أو لا نسجد للذي تأمرنا بالسجود له إن كانت ( ما ) موصولة . وحذف العائد من الصفة أو الصلة مع ما اتصل هو به لدلالة ما سبق عليه ، ومقصدهم من ذلك إباء السجود لله ؛ لأن السجود الذي أمروا به سجود لله بنية انفراد الله دون غيره ، وهم لا يجيبون إلى ذلك كما قال الله تعالى : ( وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ) أي : فيأبون ، وقال : ( وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ) . ويدل على ذلك قوله : ( وزادهم نفورا ) فالنفور من السجود سابق قبل سماع اسم الرحمن .
وقرأ الجمهور ( تأمرنا ) بتاء الخطاب . وقرأه حمزة بياء الغيبة على أن قولهم ذلك يقولونه بينهم ولا يشافهون به النبيء - صلى الله عليه وسلم . والكسائي
والضمير المستتر في ( زادهم ) عائد إلى القول المأخوذ من ( وإذا قيل لهم ) . والنفور : الفرار من الشيء . وأطلق هنا على لازمه وهو البعد . وإسناد زيادة النفور إلى القول ؛ لأنه سبب تلك الزيادة فهم كانوا أصحاب نفور من سجود لله فلما أمروا بالسجود للرحمن زادوا بعدا من الإيمان ، وهذا كقوله في سورة نوح : ( فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ) .
وهذا موضع سجدة من سجود القرآن بالاتفاق . ووجه السجود هنا إظهار مخالفة المشركين إذ ، فلما حكي إباؤهم من السجود للرحمن في معرض التعجيب من شأنهم عزز ذلك بالعمل بخلافهم فسجد النبيء - صلى الله عليه وسلم - هنا مخالفا لهم مخالفة بالفعل مبالغة في مخالفته لهم بعد أن أبطل كفرهم بقوله : ( أبوا السجود للرحمن وتوكل على الحي الذي لا يموت ) الآيات الثلاث . وسن الرسول - عليه السلام - السجود في هذا الموضع .