عطف على قوله : ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها ، أو على قوله تعالى : وأهلكنا المسرفين ، وهو تعريض بالتهديد .
[ ص: 24 ] ومناسبة موقعها أنه بعد أن أخبر أنه صدق رسله وعده وهو خبر يفيد ابتداء التنويه بشأن الرسل ونصرهم وبشأن الذين آمنوا بهم . وفيه تعريض بنصر محمد - صلى الله عليه وسلم - وذكر إهلاك المكذبين له تبعا لذلك ، فأعقب ذلك بذكر إهلاك أمم كثيرة من الظالمين ووصف ما حل بهم ؛ ليكون ذلك مقصودا بذاته ابتداء اهتماما به ليقرع أسماعهم ، فهو تعريض بإنذار المشركين بالانقراض بقاعدة قياس المساواة ، وأن الله ينشئ بعدهم أمة مؤمنة كقوله تعالى : إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد في سورة إبراهيم .
و " كم " اسم ، له حق صدر الكلام ؛ لأن أصله اسم استفهام عن العدد ، وشاع استعماله للإخبار عن كثرة الشيء على وجه المجاز ؛ لأن الشيء الكثير من شأنه أن يستفهم عنه ، والتقدير : قصمنا كثيرا من القرى فـ " كم " هنا خبرية . وهي واقعة في محل نصب بفعل " قصمنا " . وفي " كم " الدالة على كثرة العدد إيماء إلى أن هذه الكثرة تستلزم عدم تخلف إهلاك هذه القرى ، وبضميمة وصف تلك الأمم بالظلم ، أي الشرك إيماء إلى سبب الإهلاك فحصل منه ومن اسم الكثرة معنى العموم ، فيعلم المشركون التهديد بأن ذلك حال بهم لا محالة بحكم العموم ، وأن هذا ليس مرادا به قرية معينة ، فما روي عن أن المراد بالقرية ابن عباس " حضوراء " بفتح الحاء - مدينة باليمن - قتلوا نبيئا اسمه شعيب بن ذي مهدم في زمن أرمياء نبيء بني إسرائيل ، فسلط الله عليهم بختنصر فأفناهم . فإنما أراد أن هذه القرية ممن شملتهم هذه الآية ، والتقدير : قصمنا كثيرا . وقد تقدم الكلام على قوله تعالى : ألم يروا كم اهلكنا من قبلهم من قرن في سورة الأنعام .
وأطلق القرية على أهلها كما يدل عليه قوله تعالى : وأنشأنا بعدها قوما آخرين .
[ ص: 25 ] ووجه اختيار لفظ قرية هنا نظير ما قدمناه آنفا في قوله تعالى : ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها . وحرف " من " في قوله تعالى : " من قرية " لبيان الجنس ، وهي تدخل على ما فيه معنى التمييز وهي هنا تمييز لإبهام " كم " .
والقصم : الكسر الشديد الذي لا يرجى بعده التئام ولا انتفاع . واستعير للاستئصال والإهلاك القوي ، كإهلاك عاد وثمود وسبأ .
وجملة وأنشأنا بعدها قوما آخرين معترضة بين جملة وكم قصمنا من قرية وجملة فلما أحسوا بأسنا إلخ . فجملة فلما أحسوا بأسنا إلخ تفريع على جملة وكم قصمنا من قرية . وضمير " منها " عائد إلى " قرية " .
والإحساس : الإدراك بالحس ، فيكون برؤية ما يزعجهم أو سماع أصوات مؤذنة بالهلاك ، كالصواعق والرياح .
والبأس : شدة الألم والعذاب . وحرف " من " في قوله : منها يركضون يجوز أن يكون للابتداء ، أي خارجين منها ، ويجوز أن يكون للتعليل بتأويل " يركضون " معنى " يهربون " ، أي من البأس الذي أحسوا به ، فلا بد من تقدير مضاف ، أي من بأسنا الذي أحسوه في القرية . وذلك بحصول أشراط إنذار مثل الزلازل والصواعق .
والركض : سرعة سير الفرس ، وأصله الضرب بالرجل ، فيسمى به العدو ؛ لأن العدو يقتضي قوة الضرب بالرجل ، وأطلق الركض في هذه الآية على سرعة سير الناس على وجه الاستعارة تشبيها لسرعة سيرهم بركض الأفراس .
[ ص: 26 ] و " منها " ظرف مستقر في موضع الحال من الضمير المنفصل المرفوع . ودخلت " إذا " الفجائية في جواب " لما " ؛ للدلالة على أنهم ابتدروا الهروب من شدة الإحساس بالبأس تصويرا لشدة الفزع . وليست " إذا " الفجائية برابطة للجواب بالشرط ؛ لأن هذا الجواب لا يحتاج إلى رابط ، و " إذا " الفجائية قد تكون رابطة للجواب خلفا من الفاء الرابطة حيث يحتاج إلى الرابط ؛ لأن معنى الفجاءة يصلح للربط ولا يلازمه . وجملة " لا تركضوا " معترضة وهي خطاب للراكضين بتخيل كونهم كالحاضرين المشاهدين في وقت حكاية قصتهم ، ترشيحا لما اقتضى اجتلاب حرف المفاجأة ، وهذا كقول مالك بن الريب :
دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي بذي الطبسين فالتفت ورائيا
أي لما دعاه الهوى ، أي ذكره أحبابه وهو غاز بذي الطبسين التفت وراءه كالذي يدعوه داع من خلفه فتخيل الهوى داعيا وراءه . وتكون هذه الجملة معترضة بين جملة فلما أحسوا بأسنا ، وبين جملة قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين . ويجوز جعل الجملة مقول قول محذوف خوطبوا به حينئذ بأن سمعوه بخلق من الله تعالى أو من ملائكة العذاب . وهذا ما فسر به المفسرون ، ويبعده استبعاد أن يكون ذلك واقعا عند كل عذاب أصيبت به كل قرية ، وأيا ما كان فالكلام تهكم بهم .
والإتراف : إعطاء الترف ، وهو النعيم ورفه العيش ، أي ارجعوا إلى ما أعطيتم من الرفاهية وإلى مساكنكم .
[ ص: 27 ] وقوله تعالى " لعلكم تسألون " من جملة التهكم . وذكر المفسرون في معنى " تسألون " احتمالات ستة . أظهرها : أن المعنى : ارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعيم لتروا ما آل إليه ، فلعلكم يسألكم سائل عن حال ما أصابكم فتعلموا كيف تجيبون ؛ لأن شأن المسافر أن يسأله الذين يقدم إليهم عن حال البلاد التي تركها من خصب ورخاء أو ضد ذلك ، وفي هذا تكملة للتهكم .
وجملة " قالوا يا ويلنا " إن جعلت جملة " لا تركضوا " معترضة على ما قررته آنفا - تكون هذه مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة إذا هم منها يركضون كأن سائلا سأل عما يقولونه حين يسرعون هاربين ؛ لأن شأن الهارب الفزع أن تصدر منه أقوال تدل على الفزع أو الندم عن الأسباب التي أحلت به المخاوف ، فيجاب بأنهم أيقنوا حين يرون العذاب أنهم كانوا ظالمين ، فيقرون بظلمهم وينشئون التلهف والتندم بقولهم : يا ويلنا إنا كنا ظالمين . وإن جعلت جملة لا تركضوا مقول قول محذوف على ما ذهب إليه المفسرون كانت جملة قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين جوابا لقول من قال لهم : لا تركضوا على وجه التهكم بهم ويكون فصل الجملة ؛ لأنها واقعة في موقع المحاورة كما بيناه غير مرة ، أي قالوا : قد عرفنا ذنبنا وحق التهكم بنا . فاعترفوا بذنبهم . قال تعالى : فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير في سورة الملك .