وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم
الجملة في موضع الحال من ضمير لنعلم أي لنظهر من يتبع الرسول ومن ينقلب على عقبيه ونحن غير مضيعين إيمانكم . وذكر اسم الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار للتعظيم . روى عن البخاري قال البراء بن عازب كان مات على القبلة قبل أن تحول رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم . وفي قوله " قتلوا " إشكال ، أنه لم يكن قتال قبل تحويل القبلة وسنبين ذلك ، وأخرج الترمذي عن قال : ابن عباس الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله وما كان الله ليضيع إيمانكم الآية قال : هذا حديث حسن صحيح . والإضاعة : إتلاف الشيء وإبطال آثاره ، وفسر الإيمان على ظاهره ، وفسر أيضا بالصلاة ، نقله لما وجه النبيء إلى القرطبي عن مالك . وتعلق يضيع بالإيمان على تقدير مضاف فإن فسر الإيمان على ظاهره كان التقدير : ليضيع [ ص: 25 ] حق إيمانكم حين لم تزلزله وساوس الشيطان عند الاستقبال إلى قبلة لا تودونها ، وإن فسر الإيمان بالصلاة كان التقدير : ما كان الله ليضيع فضل صلاتكم أو ثوابها ، وفي إطلاق اسم الإيمان على الصلاة تنويه بالصلاة لأنها أعظم أركان الإيمان ، وعن مالك : إني لأذكر بهذا قول المرجئة الصلاة ليست من الإيمان .
ومعنى حديث البخاري : أن المسلمين كانوا يظنون أن نسخ حكم ، يجعل المنسوخ باطلا فلا تترتب عليه آثار العمل به فلذلك توجسوا خيفة على صلاة إخوانهم الذين ماتوا قبل نسخ استقبال والترمذي بيت المقدس مثل أسعد بن زرارة بن معرور وأبي أمامة ، وظن السائلون أنهم سيجب عليهم قضاء ما صلوه قبل النسخ ولهذا أجيب سؤالهم بما يشملهم ويشمل من ماتوا قبل ، فقال إيمانكم ، ولم يقل : إيمانهم . على حسب السؤال .
والتذييل بقوله إن الله بالناس لرءوف رحيم تأكيد لعدم إضاعة إيمانهم ومنة وتعليم بأن الحكم المنسوخ إنما يلغي العمل في المستقبل لا في ما مضى .
والرءوف الرحيم صفتان مشبهتان مشتقة أولاهما من الرأفة والثانية من الرحمة . والرأفة مفسرة بالرحمة في إطلاق كلام الجمهور من أهل اللغة وعليه درج وخص المحققون من أهل اللغة الرأفة بمعنى رحمة خاصة ، فقال الزجاج : الرأفة أكثر من الرحمة أي أقوى أي هي رحمة قوية ، وهو معنى قول أبو عمرو بن العلاء الجوهري : الرأفة أشد الرحمة ، وقال في المجمل : الرأفة أخص من الرحمة ولا تكاد تقع في الكراهية ، والرحمة تقع في الكراهية للمصلحة ، فاستخلص القفال من ذلك أن قال : الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة ، وهي دفع المكروه وإزالة الضر كقوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ، وأما الرحمة فاسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام اهـ . وهذا أحسن ما قيل فيها واختاره الفخر وعبد الحكيم وربما كان مشيرا إلى أن بين الرأفة والرحمة عموما وخصوصا مطلقا وأيا ما كان معنى الرأفة فالجمع بين " رءوف ورحيم " في الآية يفيد توكيد مدلول أحدهما بمدلول الآخر بالمساواة أو بالزيادة .
وأما على اعتبار تفسير المحققين لمعنى الرأفة والرحمة فالجمع بين الوصفين لإفادة أنه تعالى يرحم الرحمة القوية لمستحقها ويرحم مطلق الرحمة من دون ذلك .
[ ص: 26 ] وتقدم معنى الرحمة في سورة الفاتحة . وتقديم رءوف ليقع لفظ رحيم فاصلة فيكون أنسب بفواصل هذه السورة لانبناء فواصلها على حرف صحيح ممدود يعقبه حرف صحيح ساكن ووصف رءوف معتمد ساكنه على الهمز ، والهمز شبيه بحروف العلة فالنطق به غير تام التمكن على اللسان وحرف الفاء لكونه يخرج من بطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا أشبه حرف اللين فلا يتمكن عليه سكون الوقف .
وتقديم بالناس على متعلقه وهو رءوف رحيم للتنبيه على عنايته بهم إيقاظا لهم ليشكروه مع الرعاية على الفاصلة . وقرأ الجمهور لرءوف بواو ساكنة بعدها همزة ، وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بدون واو مع ضم الهمزة بوزن عضد وهو لغة على غير قياس .