وتفسير قصة آدم وبيان كلماتها مضى في سورة البقرة وما بعدها .
والاستفهام في أأسجد إنكار ، أي لا يكون .
[ ص: 150 ] وجملة قال أأسجد مستأنفة استئنافا بيانيا ; لأن استثناء إبليس من حكم السجود لم يفد أكثر من عدم السجود ، وهذا يثير في نفس السامع أن يسأل عن سبب التخلف عن هذا الحكم منه ، فيجاب بما صدر منه حين الاتصاف بعدم السجود أنه عصيان لأمر الله ناشئ عن جهله وغروره .
وقوله طينا حال من اسم الموصول ، أي الذي خلقته في حال كونه طينا ، فيفيد معنى أنك خلقته من الطين ، وإنما جعل جنس الطين حالا منه للإشارة إلى غلبة العنصر الترابي عليه ; لأن ذلك أشد في تحقيره في نظر إبليس .
وجملة قال أرأيتك بدل اشتمال من جملة أأسجد لمن خلقت طينا باعتبار ما تشتمل عليه من احتقار آدم وتغليط الإرادة من تفضيله ، فقد أعيد إنكار التفضيل بقوله أرأيتك المفيد الإنكار ، وعلل الإنكار بإضمار المكر لذريته ، ولذلك فصلت جملة قال أرأيتك عن جملة قال أأسجد كما وقع في قوله تعالى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد .
و أرأيتك تركيب يفتتح بها الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به ، ومعناه : أخبرني عما رأيت ، وهو مركب من همزة استفهام ، و ( رأى ) التي بمعنى علم ، ( وتاء المخاطب ) المفرد المرفوع ، ثم يزاد على ضمير الخطاب كاف خطاب تشبه ضمير الخطاب المنصوب بحسب المخاطب واحدا أو متعددا ، يقال : أرأيتك وأرأيتكم كما تقدم في قوله تعالى قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة في سورة الأنعام ، وهذه الكاف عند البصريين تأكيد لمعنى الخطاب الذي تفيده تاء الخطاب التي في محل رفع ، وهو يشبه التوكيد اللفظي ، وقال الفراء : الكاف ضمير نصب ، والتركيب : أرأيت نفسك ، وهذا أقرب للاستعمال ، ويسوغه أن أفعال الظن والعلم قد تنصب على المفعولية ما هو ضمير فاعلها نحو قول طرفة :
[ ص: 151 ]
فما لي أراني وابن عمي مالكا متى أدن منه ينأ عني ويبعد
أي : أرى نفسي .واسم الإشارة مستعمل في التحقير ، كقوله تعالى أهذا الذي يذكر آلهتكم ، والمعنى : أخبرني عن نيتك أهذا الذي كرمته علي بلا وجه .
وجملة لئن أخرتني إلى يوم القيامة إلخ مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، وهي جملة قسمية ، واللام موطئة للقسم المحذوف مع الشرط ، والخبر مستعمل في الدعاء ، فهو في معنى قوله قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون .
وهذا الكلام صدر من إبليس إعرابا عما في ضميره ، وإنما شرط التأخير إلى يوم القيامة ; ليعم بإغوائه جميع أجيال ذرية آدم فلا يكون جيل آمنا من إغوائه .
وصدر ذلك من إبليس عن وجدان ألقي في نفسه صادف مراد الله منه ، فإن الله لما خلقه قدر له أن يكون عنصر إغواء إلى يوم القيامة ، وأنه يغوي كثيرا من البشر ، ويسلم منه قليل منهم .
وإنما اقتصر على إغواء ذرية آدم ، ولم يذكر إغواء آدم وهو أولى بالذكر ، إما لأن هذا الكلام قاله بعد أن أغوى إذ آدم هو أصل عداوة الشيطان الناشئة عن الحسد من تفضيله عليه آدم وأخرج من الجنة فقد شفى غليله منه ، وبقيت العداوة مسترسلة في ذرية آدم ، قال تعالى إن الشيطان لكم عدو .
والاحتناك : وضع الراكب اللجام في حنك الفرس ليركبه ويسيره ، فهو هنا تمثيل لجلب ذرية آدم إلى مراده من الإفساد والإغواء بتسيير الفرس على حب ما يريد راكبه .