يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون استئناف بياني ; لأن توليهم عن الإسلام مع وفرة أسباب اتباعه يثير سؤالا في نفس السامع : كيف خفيت عليهم دلائل الإسلام ؟ فيجاب بأنهم عرفوا نعمة الله ، ولكنهم أعرضوا عنها إنكارا ومكابرة ، ويجوز أن تجعلها حالا من ضمير ( تولوا ) ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال لجملة ( تولوا ) .
وهذه الوجوه كلها تقتضي عدم عطفها على ما قبلها ، والمعنى : هم يعلمون نعمة الله المعدودة عليهم فإنهم منتفعون بها ، ومع تحققهم أنها نعمة من الله ينكرونها ، أي ينكرون شكرها ، فإن النعمة تقتضي أن يشكر المنعم عليه بها من أنعم عليه ، فلما عبدوا ما لا ينعم عليهم فكأنهم أنكروها ، فقد أطلق فعل ( ينكرون ) بمعنى ، فإسناد إنكار النعمة إليهم مجاز لغوي ، أو هو مجاز عقلي ، أي ينكرون ملابسها وهو الشكر . إنكار حق النعمة
و ( ثم ) للتراخي الرتبي ، كما هو شأنها في عطف الجمل ، فهو عطف على جملة ( يعرفون نعمة الله ) ، وكأنه قيل : وينكرونها ; لأن ( ثم ) لما كانت للعطف اقتضت التشريك في الحكم ، ولما كانت للتراخي الرتبي زال عنها معنى المهلة الزمانية الموضوعة هي له ; فبقي لها معنى التشريك ، وصارت المهلة مهلة رتبية ; لأن إنكار نعمة الله أمر غريب .
وإنكار النعمة يستوي فيه جميع المشركين أئمتهم ودهماؤهم ، ففريق من المشركين - وهم أئمة الكفر شأنهم التعقل والتأمل فإنهم عرفوا النعمة بإقرارهم بالمنعم ، وبما سمعوا من دلائل القرآن حتى ترددوا وشكوا في [ ص: 243 ] دين الشرك ثم ركبوا رءوسهم وصمموا على الشرك ، ولهذا عبر عن ذلك بالإنكار المقابل للإقرار .
وأما قوله تعالى وأكثرهم الكافرون فظاهر كلمة ( أكثر ) وكلمة ( الكافرون ) أن الذين وصفوا بأنهم الكافرون هم غالب المشركين لا جميعهم ، فيحمل المراد بالغالب على دهماء المشركين ، فإن معظمهم بسطاء العقول بعداء عن النظر ، فهم لا يشعرون بنعمة الله ، فإن نعمة الله تقتضي إفراده بالعبادة ، فكان إشراكهم راسخا ، بخلاف عقلائهم وأهل النظر ، فإن لهم ترددا في نفوسهم ، ولكن يحملهم على الكفر حب السيادة في قومهم ، وقد تقدم قوله تعالى فيهم ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون في سورة العقود ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم في الآية الأخرى فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون .