حتى غاية لـ يصنع الفلك أي يصنعه إلى زمن مجيء أمرنا ، فـ إذا ظرف مضمن معنى الشرط ولذلك جيء له بجواب . وهو جملة قلنا احمل . [ ص: 70 ] وجعل الشرط وجوابه غاية باعتبار ما في حرف الشرط من معنى الزمان وإضافته إلى جملة الشرط ، فحصل معنى الغاية عند حصول مضمون جملة الجزاء . وهو نظم بديع بإيجازه .
وحتى ابتدائية .
والأمر هنا يحتمل أمر التكوين بالطوفان ، ويحتمل الشأن وهو حادث الغرق ، وإضافته إلى اسم الجلالة لتهويله بأنه فوق ما يعرفون .
ومجيء الأمر : حصوله .
والفوران : غليان القدر ، ويطلق على نبع الماء بشدة ، تشبيها بفوران ماء في القدر إذا غلي ، وحملوه على ما جاء في آيات أخرى من قصة نوح - عليه السلام - مثل قوله : وفجرنا الأرض عيونا . ولذلك لم يتضح لهم إسناده إلى التنور . فإن التنور هو الموقد الذي ينضج فيه الخبز ، فكثرت الأقوال في تفسير التنور بلغت نسبة أقوال منها ما لا ينبغي قبوله . ومنها ما له وجه وهو متفاوت .
فمن المفسرين من أبقى التنور على حقيقته ، فجعل الفوران خروج الماء من أحد التنانير وأنه علامة جعلها الله لنوح - عليه السلام - إذا فار الماء من تنوره علم أن ذلك مبدأ الطوفان فركب الفلك وأركب من معه .
ومنهم من حمل التنور على المجاز المفرد ففسره بسطح الأرض . أي فار الماء من جميع الأرض حتى صار بسطح الأرض كفوهة التنور .
ومنهم من فسره بأعلى الأرض .
ومنهم من حمل فار والتنور على الحقيقة ، وأخرج الكلام مخرج التمثيل لاشتداد الحال ، كما يقال : حمي الوطيس . وقع حكاية ذلك في [ ص: 71 ] تفسير ابن عطية في هذه الآية وفي الكشاف في تفسير سورة المؤمنون : وأنشد الطبرسي قول الشاعر . وهو النابغة الجعدي :
تفور علينا قدرهم فنديمهـا ونفثأها عنا إذا قدرها غلى
يريد بالقدر الحرب ، ونفثأها ، أي نسكنها ، يقال : فثأ القدر إذا سكن غليانها بصب الماء فيها . وهذا أحسن ما حكي عن المفسرين .
والذي يظهر لي أن قوله : وفار التنور مثل لبلوغ الشيء إلى أقصى ما يتحمل مثله . كما يقال : بلغ السيل الزبى ، وامتلأ الصاع ، وفاضت الكأس وتفاقم .
والتنور : محفل الوادي ، أي ضفته ، فيكون مثل طما الوادي من قبيل بلغ السيل الزبى . والمعنى : بأن نفاذ أمرنا فيهم وبلغوا من طول مدة الكفر مبلغا لا يغتفر لهم بعد كما قال - تعالى : فلما آسفونا انتقمنا منهم
والتنور : اسم لموقد النار للخبز . وزعمه الليث مما اتفقت فيه اللغات ، أي كالصابون والسمور . ونسب الخفاجي في شفاء الغليل هذا إلى . وقال ابن عباس أبو منصور : كلام الليث يدل على أنه في الأصل أعجمي .
والدليل على ذلك أنه فعول من تنر ولا نعرف تنر في كلام العرب لأنه مهمل ، وقال غيره : ليس في كلام العرب نون قبل راء فإن نرجس معرب أيضا . وقد عد في الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن . ونظمها ابن السبكي في شرحه على مختصر الأصلي ونسب ذلك إلى ابن الحاجب . قال ابن دريد أبو علي الفارسي : وزنه فعول . وعن ثعلب أنه عربي ، قال : وزنه تفعول من النور ( أي فالتاء زايدة ) وأصله تنوور بواوين ، فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ثم حذفت الهمزة تخفيفا ثم شددت النون عوضا عما حذف أي مثل قوله تقضى البازي بمعنى تقضض .
[ ص: 72 ] وقرأ الجمهور من كل زوجين بإضافة ( كل ) إلى زوجين
والزوج : شيء يكون ثانيا لآخر في حالة . وأصله اسم لما ينضم إلى فرد فيصير زوجا له ، وكل منهما زوج للآخر . والمراد بزوجين هنا الذكر والأنثى من النوع ، كما يدل عليه إضافة ( كل ) إلى ( زوجين ) ، أي احمل فيها من أزواج جميع الأنواع .
و ( من ) تبعيضية ، و ( اثنين ) مفعول ( احمل ) ، وهو بيان لئلا يتوهم أن يحمل كل زوجين واحدا منهما لأن الزوج هو واحد من اثنين متصلين ، كما تقدم في قوله - تعالى : ثمانية أزواج في سورة الأنعام . ولئلا يحمل أكثر من اثنين من نوع لتضيق السفينة وتثقل .
وقرأه حفص ( من كل ) بتنوين ( كل ) فيكون تنوين عوض عن مضاف إليه ، أي من كل المخلوقات ، ويكون ( زوجين ) مفعول ( احمل ) ، ويكون ( اثنين ) صفة لـ ( زوجين ) أي لا تزد على اثنين .
وأهل الرجل قرابته وأهل بيته وهو اسم جمع لا واحد له . وزوجه أول من يبادر من اللفظ ، ويطلق لفظ الأهل على امرأة الرجل قال - تعالى : فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله ، وقال وإذ غدوت من أهلك أي من عند عائشة رضي الله عنها .
و من سبق عليه القول أي من مضى قول الله عليه ، أي وعيده . فالتعريف في القول للعهد ، يعني إلا من كان من أهلك كافرا . وماصدق هذا إحدى امرأتيه المذكورة في سورة التحريم ، وابنه منها المذكور في آخر هذه القصة . وكان لنوح - عليه السلام - امرأتان .
وعدي ( سبق ) بحرف ( على ) لتضمين ( سبق ) معنى : حكم ، كما عدي باللام في قوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين لتضمينه معنى الالتزام النافع .
[ ص: 73 ] و ( من آمن ) كل المؤمنين .
وجملة وما آمن معه إلا قليل اعتراض لتكميل الفائدة من القصة في قلة الصالحين . قيل : كان جميع المؤمنين به من أهله وغيرهم نيفا وسبعين بين رجال ونساء ، فكان معظم حمولة السفينة من الحيوان .