وعلى الثلاثة معطوف على النبيء بإعادة حرف الجر لبعد المعطوف عليه ، أي وتاب على الثلاثة الذين خلفوا . وهؤلاء فريق له حالة خاصة من بين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك غير الذين ذكروا في قوله : فرح المخلفون بمقعدهم الآية ، والذين ذكروا في قوله : وجاء المعذرون الآية .
والتعريف في الثلاثة تعريف العهد فإنهم كانوا معروفين بين الناس ، وهم : من كعب بن مالك بني سلمة ، ومرارة بن الربيع العمري من بني عمرو بن عوف ، وهلال بن أمية الواقفي من بني واقف ، كلهم من الأنصار تخلفوا عن غزوة تبوك بدون عذر . ولما رجع النبيء - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك سألهم عن تخلفهم فلم يكذبوه بالعذر ولكنهم اعتذروا بذنبهم وحزنوا . . وحديث ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس عن كلامهم ، وأمرهم بأن يعتزلوا نساءهم . ثم عفا الله عنهم بعد خمسين [ ص: 52 ] ليلة في قصته هذه مع الآخرين في صحيح كعب بن مالك وصحيح البخاري مسلم طويل أغر ، وقد ذكره البغوي في تفسيره .
و " خلفوا " بتشديد اللام مضاعف خلف المخفف الذي هو فعل قاصر ، معناه أنه وراء غيره ، مشتق من الخلف بسكون اللام وهو الوراء . والمقصود بقي وراء غيره . يقال : خلف عن أصحابه إذا تخلف عنهم في المشي يخلف بضم اللام في المضارع ، فمعنى ( خلفوا ) خلفهم مخلف ، أي تركهم وراءه وهم لم يخلفهم أحد وإنما تخلفوا بفعل أنفسهم . فيجوز أن يكون خلفوا بمعنى خلفوا أنفسهم على طريقة التجريد . ويجوز أن يكون تخليفهم تخليفا مجازيا استعير لتأخير البت في شأنهم ، أي الذين خلفوا عن القضاء في شأنهم فلم يعذرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا آيسهم من التوبة كما آيس المنافقين . فالتخليف هنا بمعنى الإرجاء . وبهذا التفسير فسره في حديثه المروي في الصحيح فقال : وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو وإنما تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه . اهـ . كعب بن مالك
يعني ليس المعنى أنهم خلفوا أنفسهم عن الغزو وإنما المعنى خلفهم أحد ، أي جعلهم خلفا وهو تخليف مجازي ، أي لم يقض فيهم . وفاعل التخليف يجوز أن يراد به النبيء - صلى الله عليه وسلم - أو الله تعالى .
وبناء فعل ( خلفوا ) للنائب على ظاهره ، فليس المراد أنهم خلفوا أنفسهم .
وتعليق التخليف بضمير الثلاثة من باب تعليق الحكم باسم الذات . والمراد : تعليقه بحال من أحوالها يعلم من السياق ، مثل حرمت عليكم الميتة
وهذا الذي فسر كعب به هو المناسب للغاية بقوله : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت لأن تخيل ضيق الأرض عليهم وضيق أنفسهم هو غاية لإرجاء أمرهم انتهى عندها التخليف ، وليس غاية لتخلفهم عن الغزو ; لأن تخلفهم لا انتهاء له .
[ ص: 53 ] وضيق الأرض : استعارة ، أي حتى كانت الأرض كالضيقة عليهم ، أي عندهم . وذلك التشبيه كناية عن غمهم وتنكر المسلمين لهم . فالمعنى أنهم تخيلوا الأرض في أعينهم كالضيقة كما قال الطرماح :
ملأت عليه الأرض حتى كأنها من الضيق في عينيه كفة حابل
وقوله : ( بما رحبت ) حال من الأرض ، والباء للملابسة ، أي الأرض الملابسة لسعتها المعروفة . وما مصدرية .
و ( رحبت ) اتسعت ، أي تخيلوا الأرض ضيقة وهي الأرض الموصوفة بسعتها المعروفة .
وضيق أنفسهم : استعارة للغم والحزن لأن الغم يكون في النفس بمنزلة الضيق . ولذلك يقال للمحزون : ضاق صدره ، وللمسرور : شرح صدره .
والظن مستعمل في اليقين والجزم ، وهو من معانيه الحقيقية . وقد تقدم عند قوله - تعالى : الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون في سورة البقرة ، وعند قوله - تعالى : وإنا لنظنك من الكاذبين في سورة الأعراف ، أي وأيقنوا أن أمر التوبة عليهم موكول إلى الله دون غيره بما يوحي به إلى رسوله ، أي التجئوا إلى الله دون غيره . وهذا كناية عن أنهم تابوا إلى الله وانتظروا عفوه .
وقوله : ثم تاب عليهم عطف على ضاقت عليهم الأرض وما بعده ، أي حتى وقع ذلك كله ثم تاب عليهم بعده .
و ( ثم ) هنا للمهلة والتراخي الزمني وليست للتراخي الرتبي ; لأن ما بعدها ليس أرفع درجة مما قبلها بقرينة السياق ، وهو مغن عن جواب ( إذا ) لأنه يفيد معناه ، فهو باعتبار العطف تنهية للغاية ، وباعتبار المعطوف دال على الجواب .
واللام في ( ليتوبوا ) للتعليل ، أي تاب عليهم لأجل أن يكفوا عن المخالفة ويتنزهوا عن الذنب ، أي ليدوموا على التوبة ، فالفعل مستعمل في معنى الدوام على التلبس بالمصدر لا على إحداث المصدر .
[ ص: 54 ] وليس المراد ليذنبوا فيتوبوا ، إذ لا يناسب مقام التنويه بتوبته عليهم . وجملة إن الله هو التواب الرحيم تذييل مفيد للامتنان .