عقب تحريض جميعهم على الاستجابة ، المستلزم تحذيرهم من ضدها بتحذير المستجيبين من إعراض المعرضين ، ليعلموا أنهم قد يلحقهم أذى من جراء فعل غيرهم إذا هم لم يقوموا عوج قومهم ، كيلا يحسبوا أن امتثالهم كاف إذا عصى دهماؤهم ، فحذرهم فتنة تلحقهم فتعم الظالم وغيره .
فإن المسلمين إن لم يكونوا كلمة واحدة في الاستجابة لله وللرسول - عليه الصلاة والسلام - دب بينهم الاختلاف واضطربت أحوالهم واختل نظام جماعتهم باختلاف الآراء وذلك الحال هو المعبر عنه بالفتنة .
وحاصل معنى الفتنة يرجع إلى اضطراب الآراء ، واختلال السير ، وحلول الخوف والحذر في نفوس الناس ، قال - تعالى - " وفتناك فتونا " وقد تقدم ذكر الفتنة في قوله " والفتنة أشد من القتل " في سورة البقرة .
[ ص: 317 ] فعلى عقلاء الأقوام وأصحاب الأحلام منهم إذا رأوا دبيب الفساد في عامتهم أن يبادروا للسعي إلى بيان ما حل بالناس من الضلال في نفوسهم ، وأن يكشفوا لهم ماهيته وشبهته وعواقبه ، وأن يمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسلطان ، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتى يرتدعوا ، فإن هم تركوا ذلك ، وتوانوا فيه لم يلبث الفساد أن يسري في النفوس وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره ، حتى يعم أو يكاد ، فيعسر اقتلاعه من النفوس ، وذلك الاختلال يفسد على الصالحين صلاحهم وينكد عيشهم على الرغم من صلاحهم واستقامتهم ، فظهر أن الفتنة إذا حلت بقوم لا تصيب الظالم خاصة بل تعمه والصالح ، فمن أجل ذلك وجب اتقاؤها على الكل لأن أضرار حلولها تصيب جميعهم .
وبهذا تعلم أن الفتنة قد تكون عقابا من الله - تعالى - في الدنيا ، فهي تأخذ حكم العقوبات الدنيوية التي تصيب الأمم ، فإن من سنتها أن لا تخص المجرمين إذا كان الغالب على الناس هو الفساد ، لأنها عقوبات تحصل بحوادث كونية يستتب في نظام العالم الذي سنه الله - تعالى - في خلق هذا العالم أن يوزع على الأشخاص كما ورد في حديث النهي عن المنكر في الصحيح : وفي صحيح أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا مسلم عن أنها قالت : زينب بنت جحش . يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نياتهم
وحرف لا في قوله " لا تصيبن " نهي بقرينة اتصال مدخولها بنون التوكيد المختصة بالإثبات في الخبر وبالطلب ، فالجملة الطلبية : إما نعت لفتنة بتقدير قول محذوف ، ومثله وارد في كلام العرب كقول العجاج .
حتى إذا جن الظلام واختلط جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط
أي مقول فيه . وباب حذف القول باب متسع ، وقد اقتضاه مقام المبالغة في [ ص: 318 ] التحذير هنا والاتقاء من الفتنة ، فأكد الأمر باتقائها بنهيها هي عن إصابتها إياهم ، لأن هذا النهي من أبلغ صيغ النهي بأن يوجه النهي إلى غير المراد نهيه تنبيها له على تحذيره من الأمر المنهي عنه في اللفظ ، والمقصود تحذير المخاطب بطريق الكناية لأن نهي ذلك المذكور في صيغة النهي يستلزم تحذير المخاطب ، فكأن المتكلم يجمع بين نهيين ، ومنه قول العرب " لا أعرفنك تفعل كذا " فإنه في الظاهر المتكلم نفسه عن فعل المخاطب ، ومنه قوله - تعالى - " لا يفتننكم الشيطان " ويسمى هذا بالنهي المحول ، فلا ضمير في النعت بالجملة الطلبية .
ويجوز أن تكون جملة " لا تصيبن " نهيا مستأنفا تأكيدا للأمر باتقائها مع زيادة التحذير بشمولها من لم يكن من الظالمين .
ولا يصح جعل جملة " لا تصيبن " جوابا للأمر في قوله " واتقوا فتنة " لأنه يمنع منه قوله الذين ظلموا منكم خاصة وإنما كان يجوز لو قال " لا تصيبنكم " كما يظهر بالتأمل . وقد أبطل في " مغني اللبيب " جعل لا نافية هنا ، ورد على تجويزه ذلك . الزمخشري
و خاصة اسم فاعل مؤنث لجريانه على فتنة فهو منتصب على الحال من ضمير " تصيبن " وهي حال مفيدة لأنها المقصود من التحذير .
وافتتاح جملة واعلموا أن الله شديد العقاب بفعل الأمر بالعلم للاهتمام لقصد شدة التحذير ، كما تقدم آنفا في قوله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه والمعنى أنه شديد العقاب لمن يخالف أمره ، وذلك يشمل من يخالف الأمر بالاستجابة .