الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب

عقب تحريض جميعهم على الاستجابة ، المستلزم تحذيرهم من ضدها بتحذير المستجيبين من إعراض المعرضين ، ليعلموا أنهم قد يلحقهم أذى من جراء فعل غيرهم إذا هم لم يقوموا عوج قومهم ، كيلا يحسبوا أن امتثالهم كاف إذا عصى دهماؤهم ، فحذرهم فتنة تلحقهم فتعم الظالم وغيره .

فإن المسلمين إن لم يكونوا كلمة واحدة في الاستجابة لله وللرسول - عليه الصلاة والسلام - دب بينهم الاختلاف واضطربت أحوالهم واختل نظام جماعتهم باختلاف الآراء وذلك الحال هو المعبر عنه بالفتنة .

وحاصل معنى الفتنة يرجع إلى اضطراب الآراء ، واختلال السير ، وحلول الخوف والحذر في نفوس الناس ، قال - تعالى - " وفتناك فتونا " وقد تقدم ذكر الفتنة في قوله " والفتنة أشد من القتل " في سورة البقرة .

[ ص: 317 ] فعلى عقلاء الأقوام وأصحاب الأحلام منهم إذا رأوا دبيب الفساد في عامتهم أن يبادروا للسعي إلى بيان ما حل بالناس من الضلال في نفوسهم ، وأن يكشفوا لهم ماهيته وشبهته وعواقبه ، وأن يمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسلطان ، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتى يرتدعوا ، فإن هم تركوا ذلك ، وتوانوا فيه لم يلبث الفساد أن يسري في النفوس وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره ، حتى يعم أو يكاد ، فيعسر اقتلاعه من النفوس ، وذلك الاختلال يفسد على الصالحين صلاحهم وينكد عيشهم على الرغم من صلاحهم واستقامتهم ، فظهر أن الفتنة إذا حلت بقوم لا تصيب الظالم خاصة بل تعمه والصالح ، فمن أجل ذلك وجب اتقاؤها على الكل لأن أضرار حلولها تصيب جميعهم .

وبهذا تعلم أن الفتنة قد تكون عقابا من الله - تعالى - في الدنيا ، فهي تأخذ حكم العقوبات الدنيوية التي تصيب الأمم ، فإن من سنتها أن لا تخص المجرمين إذا كان الغالب على الناس هو الفساد ، لأنها عقوبات تحصل بحوادث كونية يستتب في نظام العالم الذي سنه الله - تعالى - في خلق هذا العالم أن يوزع على الأشخاص كما ورد في حديث النهي عن المنكر في الصحيح : أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها قالت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نياتهم .

وحرف لا في قوله " لا تصيبن " نهي بقرينة اتصال مدخولها بنون التوكيد المختصة بالإثبات في الخبر وبالطلب ، فالجملة الطلبية : إما نعت لفتنة بتقدير قول محذوف ، ومثله وارد في كلام العرب كقول العجاج .


حتى إذا جن الظلام واختلط جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط



أي مقول فيه . وباب حذف القول باب متسع ، وقد اقتضاه مقام المبالغة في [ ص: 318 ] التحذير هنا والاتقاء من الفتنة ، فأكد الأمر باتقائها بنهيها هي عن إصابتها إياهم ، لأن هذا النهي من أبلغ صيغ النهي بأن يوجه النهي إلى غير المراد نهيه تنبيها له على تحذيره من الأمر المنهي عنه في اللفظ ، والمقصود تحذير المخاطب بطريق الكناية لأن نهي ذلك المذكور في صيغة النهي يستلزم تحذير المخاطب ، فكأن المتكلم يجمع بين نهيين ، ومنه قول العرب " لا أعرفنك تفعل كذا " فإنه في الظاهر المتكلم نفسه عن فعل المخاطب ، ومنه قوله - تعالى - " لا يفتننكم الشيطان " ويسمى هذا بالنهي المحول ، فلا ضمير في النعت بالجملة الطلبية .

ويجوز أن تكون جملة " لا تصيبن " نهيا مستأنفا تأكيدا للأمر باتقائها مع زيادة التحذير بشمولها من لم يكن من الظالمين .

ولا يصح جعل جملة " لا تصيبن " جوابا للأمر في قوله " واتقوا فتنة " لأنه يمنع منه قوله الذين ظلموا منكم خاصة وإنما كان يجوز لو قال " لا تصيبنكم " كما يظهر بالتأمل . وقد أبطل في " مغني اللبيب " جعل لا نافية هنا ، ورد على الزمخشري تجويزه ذلك .

و خاصة اسم فاعل مؤنث لجريانه على فتنة فهو منتصب على الحال من ضمير " تصيبن " وهي حال مفيدة لأنها المقصود من التحذير .

وافتتاح جملة واعلموا أن الله شديد العقاب بفعل الأمر بالعلم للاهتمام لقصد شدة التحذير ، كما تقدم آنفا في قوله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه والمعنى أنه شديد العقاب لمن يخالف أمره ، وذلك يشمل من يخالف الأمر بالاستجابة .

التالي السابق


الخدمات العلمية