وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون
يجوز أن يكون عطفا على جملة " أيشركون ما لا يخلق شيئا " زيادة في التعجيب من حال المشركين بذكر تصميمهم على الشرك على ما فيه من سخافة العقول ووهن الدليل ، بعد ذكر ما هو كاف لتزييفه .
فضمير الخطاب المرفوع في وإن تدعوهم موجه إلى المسلمين مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وضمير جمع الغائب المنصوب عائد إلى المشركين كما عاد [ ص: 218 ] ضمير " أيشركون " فبعد أن عجب الله المسلمين من حال أهل الشرك أنبأهم بأنهم لا يقبلون الدعوة إلى الهدى .
ومعنى ذلك أنه بالنظر إلى الغالب منهم ، وإلا فقد آمن بعضهم بعد حين وتلاحقوا بالإيمان ، عدا من ماتوا على الشرك .
وهذا الوجه هو الأليق بقوله - تعالى - بعد ذلك وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا الآية ، ليكون المخبر عنهم في هذه الآية غير المخبر عنهم في الآية الآتية ؛ لظهور تفاوت الموقع بين " لا يتبعوكم " وبين " لا يسمعوا " .
ويجوز أن تكون جملة وإن تدعوهم إلى الهدى إلخ معطوفة على جملة الصلة في قوله لا يخلق شيئا وهم يخلقون فيكون ضمير الخطاب في " تدعوهم " خطابا للمشركين الذين كان الحديث عنهم بضمائر الغيبة من قوله " فتعالى الله عما يشركون " إلى هنا ، فمقتضى الظاهر أن يقال : وإن يدعوهم إلى الهدى لا يتبعوهم ، فيكون العدول عن طريق الغيبة إلى طريق الخطاب التفاتا من الغيبة إلى الخطاب توجها إليهم بالخطاب لأن الخطاب أوقع في الدمغ بالحجة .
و " الهدى " على هذا الوجه ما يهتدى إليه ، والمقصود من ذكره أنهم لا يستجيبون إذا دعوتموهم إلى ما فيه خيرهم فيعلم أنهم لو دعوهم إلى غير ذلك لكان عدم اتباعهم دعوتهم أولى .
وجملة سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون مؤكدة لجملة وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم فلذلك فصلت .
و " سواء " اسم للشيء المساوي غيره أي ليس أولى منه في المعنى المسوق له الكلام ، والهمزة التي بعد " سواء " يقال لها همزة التسوية ، وأصلها همزة الاستفهام استعملت في التسوية ، كما تقدم عند قوله - تعالى - ( سواء عليهم آنذرتهم أم لم تنذرهم ) في سورة البقرة ، أي سواء دعوتكم إياهم وصمتكم عن الدعوة .
و " على " فيها للاستعلاء المجازي وهي بمعنى العندية أي : سواء عندهم . وإنما جعل الأمران سواء على المخاطبين ولم يجعلا سواء على المدعوين فلم يقل : سواء عليهم ، وإن كان ذلك أيضا سواء عليهم لأن المقصود من الكلام هو تأييس [ ص: 219 ] المخاطبين من استجابة المدعوين إلى ما يدعونهم إليه لا الإخبار ، وإن كان المعنيان متلازمين كما أنهما في قوله " سواء عليهم آنذرتهم أم لم تنذرهم " متلازمان فإن الإنذار وعدمه سواء : على المشركين ، وعلى المؤمنين ، ولكن الغرض هنالك بيان انعدام انتفاعهم بالهدى .
وهذا هو القانون للتفرقة بين ما يصح أن يسند فيه فعل التسوية إلى جانبين وبين ما يتعين أن يسند فيه إلى جانب واحد إذا كانت التسوية لا تهم إلا جانبا واحدا ، كما في قوله - تعالى - اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم فإنه يتعين أن تجعل التسوية بالنسبة للمخاطبين ، ولا يحسن أن يقال سواء علينا وكقوله سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص فإنه يتعين أن تكون التسوية بالنسبة إلى المتكلمين .
ووقع قوله أم أنتم صامتون معادل أدعوتموهم مع اختلاف الأسلوب بين الجملتين بالفعلية والاسمية ، فلم يقل أم صمتم ، ففي تفسير القرطبي ، عن ثعلب : أن ذلك لأنه رأس آية أي لمجرد الرعاية على الفاصلة قال : وصامتون وصمتم عند واحد ، ( أي الفعل والوصف المشتق منه سواء ) يريد لا تفاوت بينهما في أصل المعنى لأن ما بعد همزة التسوية لما كان في قوة المصدر لم يكن فيه أثر للفرق بين الفعل والاسم إذ التقدير : سواء عليكم دعوتكم إياهم وصمتكم عنهم ، فيكون العدول إلى الجملة الاسمية ليس له مقتض من البلاغة بل هما عند البليغ سيان ، ولكن العدول إلى الاسمية من مقتضى الفصاحة ، لأن الفواصل والأسجاع من أفانين الفصاحة ، وفيهما تظهر براعة الكلام إذ يكون فيه إيفاء بحق الفاصلة مع السلامة من التكلف ، كما تظهر براعة الشاعر في توفيته بحق القافية إذا سلم مع ذلك من التكلف ، قال سيبويه المرزوقي في ديباجة شرحه على الحماسة : " والقافية يجب أن تكون كالموعود به المنتظر يتشوقها المعنى بحقه ، واللفظ بقسطه ، وإلا كانت قلقة في مقرها مجتلبة لمستغن عنها " .
والتحقيق أن الجملة الاسمية دلت على ثبوت الوصف المتضمنه ، مع عدم تقييد بزمان ولا إفادة تجدد ، بخلاف الفعلية ، وهو صريح كلام الشيخ في دلائل الإعجاز ، والسكاكي في المفتاح ، لكن كلام في هذه الآية ينادي [ ص: 220 ] على أن جملة الزمخشري أم أنتم صامتون دالة على استمرار صمتهم ، وكذلك كلام السكاكي في إبداء الفرق بين الجملتين في قوله - تعالى - ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين وفي قوله - تعالى - قالوا آمنا مع قوله ، عقبه قالوا إنا معكم ، وظاهر كلام الشيرازي في شرح المفتاح أن الثبوت يستلزم الاستمرار ، وقال الشارح التفتازاني ، في شرح المفتاح : الحق أن الجملة الاسمية التي تكون عدولا عن الفعلية تفيد الدوام الذي هو كالثبوت ، وفسر في شرح تلخيص المفتاح الثبوت بمقارنة الدوام . وأما السيد في شرح المفتاح ، وحاشيته على المطول ، فقد جعل الجملة الاسمية قد يقصد بها الدوام إثباتا ونفيا بحسب المقامات ، وعندي أن الجملة الاسمية لا تفيد أكثر من الثبوت المقابل للتجدد ، وأما الاستمرار والدوام فهو معنى كنائي لها يحتاج في استفادته إلى القرينة المعينة وهي منفية هنا ، فالمعنى : سواء عليكم أدعوتموهم دعوة متجددة أم لازمتم الصمت ، وليس المعنى على الدوام ، وقد احتاج صاحب الكشاف إلى بيانه بطريقة الدقة بإيراد السؤال والجواب على عادته ، وأيا ما كان فالعدول عن الجملة الفعلية في معادل التسوية اقتضاه الحال البلاغي خلافا لثعلب .