غير أسلوب الخبر عن بني إسرائيل هنا : فابتدئ ذكر هذه القصة بطلب أن يسأل سائل بني إسرائيل الحاضرين عنها ، فنعلم من ذلك أن لهذه القصص الآتية شأنا غير شأن القصص الماضية ، ولا أحسب ذلك إلا من أجل أن هذه القصة ليست مما كتب في توراة اليهود ولا في كتب أنبيائهم ، ولكنها مما كان مرويا عن أحبارهم ، ولذلك افتتحت بالأمر بسؤالهم عنها ، لإشعار يهود العصر النبوي بأن الله أطلع نبيه - عليه الصلاة والسلام - عليها ، وهم كانوا يكتمونها ، وذلك أن الحوادث التي تكون مواعظ للأمة فيما [ ص: 147 ] اجترحته من المخالفات والمعاصي تبقي لها عقب الموعظة أثرا قد تعير الأمة به ، ولكن ذلك التعبير لا يؤبه به في جانب ما يحصل من النفع لها بالموعظة ، فالأمة في خويصتها لا يهتم قادتها ونصحاؤها إلا بإصلاح الحال ، وإن كان في ذكر بعض تلك الأحوال غضاضة عندها وامتعاض ، فإذا جاء حكم التاريخ العام بين الأمم تناولت الأمم أحوال تلك الأمة بالحكم لها وعليها ، فبقيت حوادث فلتاتها مغمزا عليها ومعرة تعير بها . وكذلك كان شأن اليهود لما أضاعوا ملكهم ووطنهم وجاوروا أمما أخرى فأصبحوا يكتمون عن أولئك الجيرة مساوئ تاريخهم ، حتى أرسل الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فعلمه من أحوالهم ما فيه معجزة لأسلافهم ، وما بقي معرة لأخلافهم ، وذلك تحد لهم ، ووخز على سوء تلقيهم الدعوة المحمدية بالمكر والحسد .
فالسؤال هنا في معنى التقرير لتقريع بني إسرائيل وتوبيخهم وعد سوابق عصيانهم ، أي ليس عصيانهم إياك ببدع ، فإن ذلك شنشنة قديمة فيهم ، وليس سؤال الاستفادة لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أعلم بذلك من جانب ربه - تعالى - . وهو نظير همزة الاستفهام التقريري فوزان ( واسألهم عن القرية ) وزان : أعدوتم في السبت ، فإن السؤال في كلام العرب على نوعين أشهرهما أن يسأل السائل عما لا يعلمه ليعلمه ، والآخر أن يسأل على وجه التقرير حين يكون السائل يعلم حصول المسئول عنه ، ويعلم المسئول أن السائل عالم وأنه إنما سأله ليقرره .
وجملة ( واسألهم ) عطف على جملة وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية واقعة معترضة بين قصص الامتنان وقصص الانتقام الآتية في قوله وقطعناهم ، ومناسبة الانتقال إلى هذه القصة أن في كلتا القصتين حديثا يتعلق بأهل قرية من قرى بني إسرائيل .
وتقدم ذكر القرية عند قوله - تعالى - ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت الآية من سورة البقرة .
وهذه القرية قيل ( أيلة ) وهي المسماة اليوم ( العقبة ) وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر قرب شبه جزيرة طور سينا ، وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر ، وكانت من مملكة إسرائيل في زمان داود - عليه السلام - ، ووصفت بأنها حاضرة البحر بمعنى الاتصال بالبحر والقرب منه ؛ لأن الحضور يستلزم القرب ، وكانت ( أيلة ) متصلة بخليج من البحر الأحمر وهو القلزم .
[ ص: 148 ] وقيل هي ( طبرية ) وكانت طبرية تدعى بحيرة طبرية ، وقد قال المفسرون : أن هذه القصة التي أشير إليها في هذه الآية كانت في مدة داود .
وأطلقت القرية على أهلها بقرينة قوله إذ يعدون أي أهلها .
والمراد السؤال عن اعتدائهم في السبت بقرينة قوله إذ يعدون في السبت إلخ فقوله إذ يعدون في السبت بدل اشتمال من القرية وهو المقصود بالحكم ، فتقدير الكلام : واسألهم إذ يعدو أهل القرية في السبت . و ( إذ ) فيه اسم زمان للماضي ، وليست ظرفا .
والعدوان الظلم ومخالفة الحق ، وهو مشتق من العدو بسكون الدال وهو التجاوز .
والسبت علم لليوم الواقع بعد يوم الجمعة ، وتقدم عند قوله - تعالى - وقلنا لهم لا تعدوا في السبت في سورة النساء .
واختيار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم .
وتعدية فعل يعدون إلى في السبت مؤذن بأن العدوان لأجل يوم السبت ، نظرا إلى ما دلت عليه صيغة المضارع من التكرير المقتضي أن عدوانهم يتكرر في كل سبت ، ونظرا إلى أن ذكر وقت العدوان لا يتعلق به غرض البليغ ما لم يكن لذلك الوقت مزيد اختصاص بالفعل فيعلم أن الاعتداء كان منوطا بحق خاص بيوم السبت ، وذلك هو حق عدم العمل فيه ، إذ ليس ليوم السبت حق في شريعة موسى سوى أنه يحرم العمل فيه ، وهذا العمل هو الصيد كما تدل عليه بقية القصة .
وهدف ( في ) للظرفية لأن العدوان وقع في شأن نقض حرمة السبت .
وقوله إذ تأتيهم حيتانهم ظرف لـ يعدون أي يعدون حين تأتيهم حيتانهم .
والحيتان جمع حوت ، وهو السمكة ، ويطلق الحوت على الجمع فهو مما استوى فيه المفرد والجمع مثل فلك ، وأكثر ما يطلق الحوت على الواحد ، والجمع حيتان .
وقوله شرعا وهو جمع شارع ، صفة للحوت الذي هو المفرد ، قال : أي ظاهرة على الماء ، يعني أنها قريبة من سطح البحر آمنة من أن تصاد ، أي أن الله ألهمها ذلك لتكون آية ابن عباس لبني إسرائيل على أن احترام السبت من العمل فيه هو من أمر الله ، وقال الضحاك : شرعا متتابعة مصطفة ، أي فهو كناية عن كثرة ما يرد منها يوم السبت .
[ ص: 149 ] وأحسب أن ذلك وصف من شرعت الإبل نحو الماء أي : دخلت لتشرب ، وهي إذا شرعها الرعاة تسابقت إلى الماء فاكتظت وتراكمت وربما دخلت فيه ، فمثلت هيئة الحيتان ، في كثرتها في الماء بالنعم الشارعة إلى الماء وحسن ذلك وجود الماء في الحالتين وهذا أحسن تفسيرا .
والمعنى : أنهم يعدون في السبت ولم يمتثلوا أمر الله بترك العمل فيه ، ولا اتعظوا بآية إلهام الحوت أن يكون آمنا فيه .
وقوله يوم سبتهم يجوز أن يكون لفظ سبت مصدر ( سبت ) إذا قطع العمل بقرينة ظاهر قوله ويوم لا يسبتون فإنه مضارع سبت ، فيتطابق المثبت والمنفي فيكون المعنى : إنهم إذا حفظوا حرمة السبت ، فأمسكوا عن الصيد في يوم السبت ، جاءت الحيتان يومئذ شرعا آمنة ، وإذا بعثهم الطمع في وفرة الصيد فأعدوا له ، آلاته وعزموا على الصيد لم تأتهم .
ويجوز أن يكون لفظ سبتهم بمعنى الاسم العلم لليوم المعروف بهذا الاسم من أيام الأسبوع ، وإضافته إلى ضميرهم اختصاصه بهم بما أنهم يهود ، تعريضا بهم لاستحلالهم حرمة السبت فإن الاسم العلم قد يضاف بهذا القصد ، كقول أحد الطائين :
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم بأبيض ماضي الشفرتين يمان
وقول ربيعة بن ثابت الأسدي .لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر ابن حـاتـم
[ ص: 150 ] فالمقصود من الآية الموعظة والعبرة وليست منة عليهم ، وقرينته قوله - تعالى - كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون أي نمتحن طاعتهم بتعريضهم لداعي العصيان وهو وجود المشتهى الممنوع .
وجملة كذلك نبلوهم مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال من يقول : ما فائدة هذه الآية مع علم الله بأنهم لا يرعوون عن انتهاك حرمة السبت .
والإشارة إلى البلوى الدال عليها نبلوهم أي مثل هذا الابتلاء العظيم نبلوهم وقد تقدم القول في نظيره من قوله - تعالى - وكذلك جعلناكم أمة وسطا في سورة البقرة .
وأصل البلوى الاختبار والبلوى إذا أسندت إلى الله - تعالى - كانت مجازا عقليا أي ليبلو الناس تمسكهم بشرائع دينهم .
والباء للسببية و ( ما ) مصدرية ، أي بفسقهم ، أي توغلهم في العصيان أضرهم على الزيادة منه ، فإذا عرض لهم داعيه خفوا إليه ولم يرقبوا أمر الله - تعالى - .