المهدي وذريته
عبيد الله أبو محمد ، أول من قام من الخلفاء
الخوارج العبيدية الباطنية الذين قلبوا الإسلام ، وأعلنوا بالرفض ، وأبطنوا مذهب
الإسماعيلية وبثوا الدعاة ، يستغوون الجبلية والجهلة .
وادعى هذا المدبر أنه فاطمي من ذرية
جعفر الصادق فقال : أنا
عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد .
وقيل : بل قال : أنا
عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق .
وقيل : لم يكن اسمه عبيد الله ; بل إنما هو
سعيد بن أحمد ، وقيل :
سعيد بن الحسين .
[ ص: 142 ] وقيل : كان أبوه يهوديا .
وقيل : من أولاد
ديصان الذي ألف في الزندقة .
وقيل : لما رأى
اليسع صاحب
سجلماسة الغلبة ، دخل فذبح
المهدي ، فدخل
أبو عبد الله الشيعي ، فرآه قتيلا وعنده خادم له ، فأبرز الخادم ، وقال للناس : هذا إمامكم .
والمحققون على أنه دعي ; بحيث إن
المعز منهم لما سأله
السيد ابن طباطبا عن نسبه ، قال : غدا أخرجه لك . ثم أصبح وقد ألقى عرمة من الذهب ، ثم جذب نصف سيفه من غمده ، فقال : هذا نسبي . وأمرهم بنهب الذهب ، وقال : هذا حسبي .
[ ص: 143 ] وقد صنف
ابن الباقلاني وغيره من الأئمة في هتك مقالات
العبيدية وبطلان نسبهم ، فهذا نسبهم ، وهذه نحلتهم ، وقد سقت في حوادث " تاريخنا " من أحوال هؤلاء وأخبارهم في تفاريق السنين عجائب .
وكان هذا من
أهل سلمية له غور ، وفيه دهاء ومكر ، وله همة علية ، فسرى على أنموذج
علي بن محمد الخبيث صاحب
الزنج الذي خرب
البصرة وغيرها ، وتملك بضع عشرة سنة ، وأهلك البلاد والعباد ، وكان بلاء على الأمة ، فقتل سنة سبعين ومائتين .
فرأى
عبيد الله أن ما يرومه من الملك لا ينبغي أن يكون ظهوره
بالعراق ولا
بالشام ، فبعث أولا له داعيين شيطانين داهيتين ، وهما الأخوان
أبو عبد الله الشيعي وأخوه
أبو العباس ، فظهر أحدهما
باليمن ، والآخر
بإفريقية ، وأظهر كل منهما الزهد والتأله ، وأدبا أولاد الناس ، وشوقا إلى
الإمام المهدي .
[ ص: 144 ] ولهم البلاغات السبعة : فالأول للعوام وهو الرفض ، ثم البلاغ الثاني للخواص ، ثم البلاغ الثالث لمن تمكن ، ثم الرابع لمن استمر سنتين ، ثم الخامس لمن ثبت في المذهب ثلاث سنين ، ثم السادس لمن أقام أربعة أعوام ، ثم الخطاب بالبلاغ السابع هو الناموس الأعظم .
قال
محمد بن إسحاق النديم : قرأته فرأيت فيه أمرا عظيما من إباحة المحظورات ، والوضع من الشرائع وأصحابها ، وكان في أيام
معز الدولة ظاهرا شائعا ، والدعاة منبثون في النواحي ، ثم تناقص .
قلت : ثم استحكم أمر
أبي عبد الله بالمغرب ، وتبعه خلق من
البربر ، ثم لحق به أخوه ، وعظم جمعه ، حتى حارب متولي
المغرب وقهره ، وجرت له أمور طويلة في أزيد من عشرة أعوام .
فلما سمع
عبيد الله بظهور داعيه سار بولده في زي تجار ، والعيون عليهما إلى أن ظفر بهما متولي
الإسكندرية فسر بهما ، وكاشر لهما التشيع فيه فدخلا
المغرب فظفر بهما أمير
المغرب فسجنهما ، ولم يقرا له بشيء ثم التقى هو
وأبو عبد الله الشيعي ، فانتصر
أبو عبد الله ، وتملك البلاد ، وأخرج
المهدي من السجن ، وقبل يده وقال لقواده : هذا إمامنا . فبايعه الملأ .
[ ص: 145 ] ووقع بعد بينه وبين داعييه لكونه ما أنصفهما ، ولا جعل لهما كبير منصب ، فشككا فيه خواصهما ، وتفرقت كلمة الجنود ، ووقع بينهم مصاف فانتصر
عبيد الله ، وذبح الأخوين ودانت له الأمم ، وأنشأ مدينة
المهدية ولم يتوجه لحربه جيش لبعد الشقة ولوهن شأن الخلافة بإمارة
المقتدر وجهز من
المغرب ولده ليأخذ
مصر ، فلم يتم له ذلك .
قال
أبو الحسن القابسي ، صاحب الملخص إن الذين قتلهم
عبيد الله وبنوه أربعة آلاف في
دار النحر في العذاب من عالم وعابد ليردهم عن الترضي عن الصحابة ، فاختاروا الموت ، فقال
سهل الشاعر :
وأحل دار النحر في أغلاله من كان ذا تقوى وذا صلوات
ودفن سائرهم في
المنستير وهو بلسان
الفرنج : المعبد الكبير .
وكانت دولة هذا بضعا وعشرين سنة .
حكى
الوزير القفطي في سيرة
بني عبيد ، قال : كان
أبو عبد الله الشيعي أحد الدواهي ; وذلك أنه جمع مشايخ
كتامة ليشككهم في الإمام ،
[ ص: 146 ] فقال : إن الإمام كان
بسلمية قد نزل عند يهودي عطار يعرف
بعبيد ، فقام به وكتم أمره ، ثم مات
عبيد عن ولدين ، فأسلما هما وأمهما على يد الإمام ، وتزوج بها ، وبقي مختفيا ، وبقي الأخوان في دكان العطر ، فولدت للإمام ابنين ، فعند اجتماعي به سألته : أي الاثنين إمامي بعدك ؟ فقال : من أتاك منهما فهو إمامك .
فسيرت أخي لإحضارهما ، فوجد أباهما قد مات هو وابنه الواحد ، فأتى بهذا ، وقد خفت أن يكون أحد ولدي عبيد .
فقالوا : وما أنكرت منه ؟ قال : إن الإمام يعلم الكائنات قبل وقوعها . وهذا قد دخل معه بولدين ، ونص الأمر في الصغير بعده ، ومات بعد عشرين يوما -يعني الولد- ولو كان إماما لعلم بموته ، قالوا : ثم ماذا ؟ قال : والإمام لا يلبس الحرير والذهب ، وهذا قد لبسهما ، وليس له أن يطأ إلا ما تحقق أمره ، وهذا قد وطئ نساء
زيادة الله يعني متولي
المغرب - ، قال : فشككت
كتامة في أمره ، وقالوا : فما ترى ؟ قال : قبضه ثم نسير من يكشف لنا عن أولاد الإمام على الحقيقة . فأجمعوا أمرهم ، وخف كبير
كتامة ، فواجه
المهدي ، وقال : قد شككنا فيك ، فأت بآية . فأجابه بأجوبة قبلها عقله .
وقال : إنكم تيقنتم ، واليقين لا يزول إلا بيقين لا بشك ، وإن الطفل لم يمت ، وإنه إمامك ، وإنما الأئمة ينتقلون ، وقد انتقل لإصلاح جهة أخرى . قال : آمنت ، فما لبسك الحرير ؟ قال : أنا نائب الشرع أحلل لنفسي ما أريد ، وكل الأموال لي ،
وزيادة الله كان عاصيا .
وأما
عبد الله الشيعي وأخوه ، فإنهما أخذا يخببان عليه فقتلهما .
[ ص: 147 ] وخرج عليه خلق من
كتامة ، فظفر بحيلة وقتلهم .
وخرج عليه
أهل طرابلس ، فجهز ولده
القائم ، فافتتحها عنوة ، وافتتح
برقة ثم فتح
صقلية وجهز
القائم مرتين لأخذ
مصر ، ويرجع مهزوما وبنى
المهدية في سنة ثمان وثلاثمائة .
وخلف ستة بنين ، وسبع بنات ، وآخرهم وفاة
أحمد ; عاش إلى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة
بمصر .
وفي أيام
المهدي عاثت
القرامطة بالبحرين ، وأخذوا الحجيج ، وقتلوا وسبوا ، واستباحوا حرم الله ، وقلعوا الحجر الأسود . وكان
عبيد الله يكاتبهم ويحرضهم ، قاتله الله .
وقد ذكرت في " تاريخ الإسلام " أن في سنة سبعين ومائتين ظهرت دعوة
المهدي باليمن ، وكان قد سير داعيين
أبا القاسم بن حوشب الكوفي وأبا الحسين ، وزعم أنه
ابن محمد بن إسماعيل بن الصادق جعفر بن محمد .
ونقل
المؤيد الحموي في " تاريخه " أن
المهدي اسمه فيما
[ ص: 148 ] كان قيل :
سعيد بن الحسين ، وأن أباه
الحسين قدم
سلمية ، فوصفت له امرأة يهودي حداد قد مات عنها فتزوجها
الحسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله القداح هذا ، وكان لها ولد من اليهودي ، فأحبه
الحسين وأدبه ، ولما احتضر عهد إليه بأمور ، وعرفه أسرار
الباطنية ، وأعطاه أموالا ، فبث له الدعاة .
وقد اختلف المؤرخون ، وكثر كلامهم في قصة
عبيد الله القداح بن ميمون بن ديصان ; فقالوا : إن
ديصان هذا هو صاحب " كتاب الميزان " في الزندقة ، وكان يتولى
أهل البيت ، وقال : ونشأ
لميمون بن ديصان ابنه
عبد الله ، فكان يقدح العين ، وتعلم من أبيه حيلا ومكرا .
سار
عبد الله في نواحي
أصبهان ، وإلى
البصرة . ثم إلى
سلمية يدعو إلى
أهل البيت ، ثم مات ، فقام ابنه
أحمد بعده ، فصحبه
رستم بن حوشب النجار الكوفي ، فبعثه
أحمد إلى
اليمن يدعو له ، فأجابوه ، فسار إليه
أبو عبد الله الشيعي من
صنعاء -وكان
بعدن - فصحبه ، وصار من كبراء أصحابه .
وكان
لأبي عبد الله هذا دهاء وعلوم وذكاء ، وبعث
ابن حوشب دعاة إلى
المغرب ، فأجابته
كتامة ، فنفذ
ابن حوشب إليهم
أبا عبد الله ومعه ذهب كثير في سنة ثمانين ومائتين ، فصار من أمره ما صار .
فهذا قول ، ونرجع إلى قول آخر هو أشهر ، فسير -أعني والد
المهدي -
أبا عبد الله الشيعي ، فأقام
باليمن أعواما ، ثم حج ، فصادف طائفة من
كتامة حجاجا ، فنفق عليهم ، وأخذوه إلى
المغرب فأضلهم وكان
[ ص: 149 ] يقول : إن لظواهر الآيات والأحاديث بواطن هي كاللب ، والظاهر كالقشر ، وقال : لكل آية ظهر وبطن ، فما وقف على علم الباطن فقد ارتقى عن رتبة التكاليف .
وكان
أبو عبد الله ذا مكر ودهاء وحيل وربط ، وله يد في العلم ، فاشتهر
بالقيروان ، وبايعته
البربر ، وتألهوه لزهده ، فبعث إليه متولي
إفريقية يخوفه ويهدده ، فما ألوى عليه ، فلما هم بقبضه استنهض الذين تبعوه ، وحارب فانتصر مرات ، واستفحل أمره ، فصنع صاحب
إفريقية صنع
محمد بن يعفر صاحب
اليمن ، فرفض الإمارة ، وأظهر التوبة ، ولبس الصوف ، ورد المظالم ، ومضى غازيا نحو
الروم ، فتملك بعده ابنه
أبو العباس بن إبراهيم بن أحمد ، ووصل الأب إلى
صقلية ، ومنها إلى
طبرمين فافتتحها ، ثم مات مبطونا في ذي القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين ، كانت دولته ثمانيا وعشرين سنة ، ودفن
بصقلية .
وشهر الشيعي بالمشرق ، وكثرت جيوشه ، وزاد الطلب
لعبيد الله ، فسار بابنه وهو صبي ومعهما
أبو العباس أخو الداعي الشيعي ، فتحيلوا حتى وصلوا إلى
طرابلس المغرب ، وتقدمهما
أبو العباس إلى
القيروان ، وبالغ
زيادة الله الأغلبي في تطلبهما ، فوقع
بأبي العباس فقرره ، فأصر على الإنكار ، فحبسه
برقادة .
وعرف بذلك
المهدي ، فعدل إلى
سجلماسة ، وأقام بها يتجر ، فعلم به
زيادة الله ، وقبض متولي البلد على
المهدي وابنه ، ثم
[ ص: 150 ] التقى
زيادة الله والشيعي غير مرة ، وينتصر الشيعي ، وانهزم من السجن
أبو العباس ، ثم أمسك .
وأما
زيادة الله فأيس من
المغرب ، ولحق
بمصر ، وأقبل الشيعي وأخوه في جمع كثير ، فقصدا
سجلماسة ، فبرز لهما متوليها
اليسع ، فانهزم جيشه في سنة ست وتسعين ومائتين ، وأخرج
الشيعي عبيد الله وابنه ، واستولى على البلاد ، وتمهدت له
المغرب .
ثم سار في أربعين ألفا برا وبحرا يقصد
مصر ، فنزل
لبدة ، وهي على أربعة مراحل من
الإسكندرية ، ففجر
تكين الخاصة عليهم النيل ، فحال الماء بينهم وبين
مصر .
قال
المسبحي فكانت وقعة
برقة ، فسلمها
المنصور وانهزم إلى
مصر .
وفيها سار
حباسة الكتامي في عسكر عظيم طليعة بين يدي
ابن المهدي ، فوصل إلى
الجيزة ، فتاه على المخاضة ، وبرز إليه عسكر ومنعوه ، وكان النيل زائدا ، فرجع جيش
المهدي وعاثوا وأفسدوا .
[ ص: 151 ] ثم قصدوا
مصر في سنة ست وثلاثمائة مع
القائم ، فأخذ
الإسكندرية ، وكثيرا من
الصعيد ، ثم رجع ، ثم أقبلوا في سنة ثمان وملكوا
الجيزة .
وفي نسب
المهدي أقوال حاصلها أنه ليس بهاشمي ولا فاطمي .
وكان موته في نصف ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ، وله اثنتان وستون سنة ، وكانت دولته خمسا وعشرين سنة وأشهرا .
وقام بعده ابنه
القائم .
نقل
القاضي عياض في ترجمة
أبي محمد الكستراتي أنه سئل عمن أكرهه
بنو عبيد على الدخول في دعوتهم أو يقتل ؟ فقال : يختار القتل ولا يعذر ، ويجب الفرار ; لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع لا يجوز .
قال
القاضي عياض : أجمع العلماء
بالقيروان أن حال
بني عبيد حال المرتدين والزنادقة .
وقيل : إن
عبيد الله تملك
المغرب ، فلم يكن يفصح بهذا المذهب إلا للخواص ، فلما تمكن أكثر القتل جدا ، وسبى الحريم ، وطمع في أخذ
مصر .
الْمَهْدِيُّ وَذُرِّيَّتُهُ
عُبَيْدُ اللَّهِ أَبُو مُحَمَّدٍ ، أَوَّلُ مَنْ قَامَ مِنَ الْخُلَفَاءِ
الْخَوَارِجِ الْعُبَيْدِيَّةِ الْبَاطِنِيَةِ الَّذِينَ قَلَبُوا الْإِسْلَامَ ، وَأَعْلَنُوا بِالرَّفْضِ ، وَأَبْطَنُوا مَذْهَبَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَبَثُّوا الدُّعَاةَ ، يَسْتَغْوُونَ الْجَبَلِيَّةَ وَالْجَهَلَةَ .
وَادَّعَى هَذَا الْمُدْبِرُ أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ مِنْ ذُرِّيَّةِ
جَعْفَرٍ الصَّادِقِ فَقَالَ : أَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ .
وَقِيلَ : بَلْ قَالَ : أَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ .
وَقِيلَ : لَمْ يَكُنِ اسْمُهُ عُبَيْدَ اللَّهِ ; بَلْ إِنَّمَا هُوَ
سَعِيدُ بْنُ أَحْمَدَ ، وَقِيلَ :
سَعِيدُ بْنُ الْحُسَيْنِ .
[ ص: 142 ] وَقِيلَ : كَانَ أَبُوهُ يَهُودِيًّا .
وَقِيلَ : مِنْ أَوْلَادِ
دَيْصَانَ الَّذِي أَلَّفَ فِي الزَّنْدَقَةِ .
وَقِيلَ : لَمَّا رَأَى
الْيَسَعُ صَاحِبُ
سِجِلْمَاسَةَ الْغَلَبَةَ ، دَخَلَ فَذَبَحَ
الْمَهْدِيَّ ، فَدَخَلَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ ، فَرَآهُ قَتِيلًا وَعِنْدَهُ خَادِمٌ لَهُ ، فَأَبْرَزَ الْخَادِمَ ، وَقَالَ لِلنَّاسِ : هَذَا إِمَامُكُمْ .
وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ دَعِيٌّ ; بِحَيْثُ إِنَّ
الْمُعِزَّ مِنْهُمْ لَمَّا سَأَلَهُ
السَّيِّدُ ابْنُ طَبَاطَبَا عَنْ نَسَبِهِ ، قَالَ : غَدًا أُخْرِجُهُ لَكَ . ثُمَّ أَصْبَحَ وَقَدْ أَلْقَى عَرَمَةً مِنَ الذَّهَبِ ، ثُمَّ جَذَبَ نِصْفَ سَيْفِهِ مِنْ غِمْدِهِ ، فَقَالَ : هَذَا نَسَبِي . وَأَمَرَهُمْ بِنَهْبِ الذَّهَبِ ، وَقَالَ : هَذَا حَسَبِي .
[ ص: 143 ] وَقَدْ صَنَّفَ
ابْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي هَتْكِ مَقَالَاتِ
الْعُبَيْدِيَّةِ وَبُطْلَانِ نَسَبِهِمْ ، فَهَذَا نَسَبُهُمْ ، وَهَذِهِ نِحْلَتُهُمْ ، وَقَدْ سُقْتُ فِي حَوَادِثِ " تَارِيخِنَا " مِنْ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ وَأَخْبَارِهِمْ فِي تَفَارِيقِ السِّنِينَ عَجَائِبَ .
وَكَانَ هَذَا مِنْ
أَهْلِ سَلَمِيَّةَ لَهُ غَوْرٌ ، وَفِيهِ دَهَاءٌ وَمَكْرٌ ، وَلَهُ هِمَّةٌ عَلِيَّةٌ ، فَسَرَى عَلَى أُنْمُوذَجِ
عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخَبِيثِ صَاحِبِ
الزِّنْجِ الَّذِي خَرَّبَ
الْبَصْرَةَ وَغَيْرَهَا ، وَتَمَلَّكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَأَهْلَكَ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ ، وَكَانَ بَلَاءً عَلَى الْأُمَّةِ ، فَقُتِلَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ .
فَرَأَى
عُبَيْدُ اللَّهِ أَنَّ مَا يَرُومُهُ مِنَ الْمُلْكِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ظُهُورُهُ
بِالْعِرَاقِ وَلَا
بِالشَّامِ ، فَبَعَثَ أَوَّلًا لَهُ دَاعِيَيْنِ شَيْطَانَيْنِ دَاهِيَتَيْنِ ، وَهُمَا الْأَخَوَانِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ وَأَخُوهُ
أَبُو الْعَبَّاسِ ، فَظَهَرَ أَحَدُهُمَا
بِالْيَمَنِ ، وَالْآخَرُ
بِإِفْرِيقِيَّةَ ، وَأَظْهَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا الزُّهْدَ وَالتَّأَلُّهَ ، وَأَدَّبَا أَوْلَادَ النَّاسِ ، وَشَوَّقَا إِلَى
الْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ .
[ ص: 144 ] وَلَهُمُ الْبَلَاغَاتُ السَّبْعَةُ : فَالْأَوَّلُ لِلْعَوَامِّ وَهُوَ الرَّفْضُ ، ثُمَّ الْبَلَاغُ الثَّانِي لِلْخَوَاصِّ ، ثُمَّ الْبَلَاغُ الثَّالِثُ لِمَنْ تَمَكَّنَ ، ثُمَّ الرَّابِعُ لِمَنِ اسْتَمَرَّ سَنَتَيْنِ ، ثُمَّ الْخَامِسُ لِمَنْ ثَبَتَ فِي الْمَذْهَبِ ثَلَاثَ سِنِينَ ، ثُمَّ السَّادِسُ لِمَنْ أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ ، ثُمَّ الْخِطَابُ بِالْبَلَاغِ السَّابِعِ هُوَ النَّامُوسُ الْأَعْظَمُ .
قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ النَّدِيمُ : قَرَأْتُهُ فَرَأَيْتُ فِيهِ أَمْرًا عَظِيمًا مِنْ إِبَاحَةِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَالْوَضْعِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَأَصْحَابِهَا ، وَكَانَ فِي أَيَّامِ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ ظَاهِرًا شَائِعًا ، وَالدُّعَاةُ مُنْبَثُّونَ فِي النَّوَاحِي ، ثُمَّ تَنَاقَصَ .
قُلْتُ : ثُمَّ اسْتَحْكَمَ أَمْرُ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِالْمَغْرِبِ ، وَتَبِعَهُ خَلْقٌ مِنَ
الْبَرْبَرِ ، ثُمَّ لَحِقَ بِهِ أَخُوهُ ، وَعَظُمَ جَمْعُهُ ، حَتَّى حَارَبَ مُتَوَلِّي
الْمَغْرِبَ وَقَهَرَهُ ، وَجَرَتْ لَهُ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ فِي أَزْيَدَ مِنْ عَشَرَةِ أَعْوَامٍ .
فَلَمَّا سَمِعَ
عُبَيْدُ اللَّهِ بِظُهُورِ دَاعِيهِ سَارَ بِوَلَدِهِ فِي زِيِّ تُجَّارٍ ، وَالْعُيُونُ عَلَيْهِمَا إِلَى أَنْ ظَفِرَ بِهِمَا مُتَوَلِّي
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَسُرَّ بِهِمَا ، وَكَاشَرَ لَهُمَا التَّشَيُّعَ فِيهِ فَدَخَلَا
الْمَغْرِبَ فَظَفِرَ بِهِمَا أَمِيرُ
الْمَغْرِبِ فَسَجَنَهُمَا ، وَلَمْ يُقِرَّا لَهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ الْتَقَى هُوَ
وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيِّ ، فَانْتَصَرَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ، وَتَمَلَّكَ الْبِلَادَ ، وَأَخْرَجَ
الْمَهْدِيَّ مِنَ السَّجْنِ ، وَقَبَّلَ يَدَهُ وَقَالَ لِقُوَّادِهِ : هَذَا إِمَامُنَا . فَبَايَعَهُ الْمَلَأُ .
[ ص: 145 ] وَوَقَعَ بُعْدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَاعِيَيْهِ لِكَوْنِهِ مَا أَنْصَفَهُمَا ، وَلَا جَعَلَ لَهُمَا كَبِيرَ مَنْصِبٍ ، فَشَكَّكَا فِيهِ خَوَاصَّهُمَا ، وَتَفَرَّقَتْ كَلِمَةُ الْجُنُودِ ، وَوَقَعَ بَيْنَهُمْ مَصَافٌّ فَانْتَصَرَ
عُبَيْدُ اللَّهِ ، وَذَبَحَ الْأَخَوَيْنِ وَدَانَتْ لَهُ الْأُمَمُ ، وَأَنْشَأَ مَدِينَةَ
الْمَهْدِيَّةِ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ لِحَرْبِهِ جَيْشٌ لِبُعْدِ الشُّقَّةِ وَلِوَهْنِ شَأْنِ الْخِلَافَةِ بِإِمَارَةِ
الْمُقْتَدِرِ وَجَهَّزَ مِنَ
الْمَغْرِبِ وَلَدَهُ لِيَأْخُذَ
مِصْرَ ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ .
قَالَ
أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ ، صَاحِبُ الْمُلَخَّصِ إِنَّ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ
عُبَيْدُ اللَّهِ وَبَنُوهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فِي
دَارِ النَّحْرِ فِي الْعَذَابِ مِنْ عَالِمٍ وَعَابِدٍ لِيَرُدَّهُمْ عَنِ التَّرَضِّي عَنِ الصَّحَابَةِ ، فَاخْتَارُوا الْمَوْتَ ، فَقَالَ
سَهْلٌ الشَّاعِرُ :
وَأَحَلَّ دَارَ النَّحْرِ فِي أَغْلَالِهِ مَنْ كَانَ ذَا تَقْوَى وَذَا صَلَوَاتِ
وَدُفِنَ سَائِرُهُمْ فِي
الْمُنَسْتِيرِ وَهُوَ بِلِسَانِ
الْفِرَنْجِ : الْمَعْبَدُ الْكَبِيرُ .
وَكَانَتْ دَوْلَةُ هَذَا بِضْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً .
حَكَى
الْوَزِيرُ الْقِفْطِيُّ فِي سِيرَةِ
بَنِي عُبَيْدٍ ، قَالَ : كَانَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ أَحَدَ الدَّوَاهِي ; وَذَلِكَ أَنَّهُ جَمَعَ مَشَايِخَ
كُتَامَةَ لِيُشَكِّكَهُمْ فِي الْإِمَامِ ،
[ ص: 146 ] فَقَالَ : إِنَّ الْإِمَامَ كَانَ
بِسَلَمِيَّةَ قَدْ نَزَلَ عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَطَّارٍ يُعْرَفُ
بِعُبَيْدٍ ، فَقَامَ بِهِ وَكَتَمَ أَمْرَهُ ، ثُمَّ مَاتَ
عُبَيْدٌ عَنْ وَلَدَيْنِ ، فَأَسْلَمَا هُمَا وَأَمُّهُمَا عَلَى يَدِ الْإِمَامِ ، وَتَزَوَّجَ بِهَا ، وَبَقِيَ مُخْتَفِيًا ، وَبَقِيَ الْأَخَوَانِ فِي دُكَّانِ الْعِطْرِ ، فَوَلَدَتْ لِلْإِمَامِ ابْنَيْنِ ، فَعِنْدَ اجْتِمَاعِي بِهِ سَأَلْتُهُ : أَيُّ الِاثْنَيْنِ إِمَامِي بَعْدَكَ ؟ فَقَالَ : مَنْ أَتَاكَ مِنْهُمَا فَهُوَ إِمَامُكَ .
فَسَيَّرْتُ أَخِي لِإِحْضَارِهِمَا ، فَوَجَدَ أَبَاهُمَا قَدْ مَاتَ هُوَ وَابْنُهُ الْوَاحِدُ ، فَأَتَى بِهَذَا ، وَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ وَلَدَيْ عُبَيْدٍ .
فَقَالُوا : وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْهُ ؟ قَالَ : إِنَّ الْإِمَامَ يَعْلَمُ الْكَائِنَاتِ قَبْلَ وُقُوعِهَا . وَهَذَا قَدْ دَخَلَ مَعَهُ بِوَلَدَيْنِ ، وَنَصَّ الْأَمْرَ فِي الصَّغِيرِ بَعْدِهِ ، وَمَاتَ بَعْدَ عِشْرِينَ يَوْمًا -يَعْنِي الْوَلَدَ- وَلَوْ كَانَ إِمَامًا لَعَلِمَ بِمَوْتِهِ ، قَالُوا : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : وَالْإِمَامُ لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ ، وَهَذَا قَدْ لَبِسَهُمَا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ إِلَّا مَا تَحَقَّقَ أَمْرَهُ ، وَهَذَا قَدْ وَطِئَ نِسَاءَ
زِيَادَةِ اللَّهِ يَعْنِي مُتَوَلِّيَ
الْمَغْرِبِ - ، قَالَ : فَشَكَّكَتْ
كُتَامَةُ فِي أَمْرِهِ ، وَقَالُوا : فَمَا تَرَى ؟ قَالَ : قَبْضُهُ ثُمَّ نُسَيِّرُ مَنْ يَكْشِفُ لَنَا عَنْ أَوْلَادِ الْإِمَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ . فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ ، وَخَفَّ كَبِيرُ
كُتَامَةَ ، فَوَاجَهَ
الْمَهْدِيَّ ، وَقَالَ : قَدْ شَكَكْنَا فِيكَ ، فَأْتِ بِآيَةٍ . فَأَجَابَهُ بِأَجْوِبَةٍ قَبِلَهَا عَقْلُهُ .
وَقَالَ : إِنَّكُمْ تَيَقَّنْتُمْ ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ إِلَّا بِيَقِينٍ لَا بِشَكٍّ ، وَإِنَّ الطِّفْلَ لَمْ يَمُتْ ، وَإِنَّهُ إِمَامُكَ ، وَإِنَّمَا الْأَئِمَّةُ يَنْتَقِلُونَ ، وَقَدِ انْتَقَلَ لِإِصْلَاحِ جِهَةٍ أُخْرَى . قَالَ : آمَنْتُ ، فَمَا لُبْسُكَ الْحَرِيرَ ؟ قَالَ : أَنَا نَائِبُ الشَّرْعِ أُحَلِّلُ لِنَفْسِي مَا أُرِيدُ ، وَكُلُّ الْأَمْوَالِ لِي ،
وَزِيَادَةُ اللَّهِ كَانَ عَاصِيًا .
وَأَمَّا
عَبْدُ اللَّهِ الشِّيعِيُّ وَأَخُوهُ ، فَإِنَّهُمَا أَخَذَا يُخَبِّبَانِ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُمَا .
[ ص: 147 ] وَخَرَجَ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنْ
كُتَامَةَ ، فَظَفِرَ بِحِيلَةٍ وَقَتَلَهُمْ .
وَخَرَجَ عَلَيْهِ
أَهْلُ طَرَابُلُسَ ، فَجَهَّزَ وَلَدَهُ
الْقَائِمَ ، فَافْتَتَحَهَا عَنْوَةً ، وَافْتَتَحَ
بَرْقَةَ ثُمَّ فَتَحَ
صِقِلِّيَّةَ وَجَهَّزَ
الْقَائِمَ مَرَّتَيْنِ لِأَخْذِ
مِصْرَ ، وَيَرْجِعُ مَهْزُومًا وَبَنَى
الْمَهْدِيَّةَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ .
وَخَلَّفَ سِتَّةَ بَنِينَ ، وَسَبْعَ بَنَاتٍ ، وَآخِرُهُمْ وَفَاةً
أَحْمَدُ ; عَاشَ إِلَى سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
بِمِصْرَ .
وَفِي أَيَّامِ
الْمَهْدِيِّ عَاثَتِ
الْقَرَامِطَةُ بِالْبَحْرَيْنِ ، وَأَخَذُوا الْحَجِيجَ ، وَقَتَلُوا وَسَبَوْا ، وَاسْتَبَاحُوا حَرَمَ اللَّهِ ، وَقَلَعُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ . وَكَانَ
عُبَيْدُ اللَّهِ يُكَاتِبُهُمْ وَيُحَرِّضُهُمْ ، قَاتَلَهُ اللَّهُ .
وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي " تَارِيخِ الْإِسْلَامِ " أَنَّ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ظَهَرَتْ دَعْوَةُ
الْمَهْدِيِّ بِالْيَمَنِ ، وَكَانَ قَدْ سَيَّرَ دَاعِيَيْنِ
أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ حَوْشَبٍ الْكُوفِيَّ وَأَبَا الْحُسَيْنِ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ
ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ .
وَنَقَلَ
الْمُؤَيَّدُ الْحَمَوِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " أَنَّ
الْمَهْدِيَّ اسْمُهُ فِيمَا
[ ص: 148 ] كَانَ قِيلَ :
سَعِيدُ بْنُ الْحُسَيْنِ ، وَأَنَّ أَبَاهُ
الْحُسَيْنَ قَدِمَ
سَلَمِيَّةَ ، فَوُصِفَتْ لَهُ امْرَأَةُ يَهُودِيٍّ حَدَّادٍ قَدْ مَاتَ عَنْهَا فَتَزَوَّجَهَا
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَدَّاحُ هَذَا ، وَكَانَ لَهَا وَلَدٌ مِنَ الْيَهُودِيِّ ، فَأَحَبَّهُ
الْحُسَيْنُ وَأَدَّبَهُ ، وَلَمَّا احْتُضِرَ عَهِدَ إِلَيْهِ بِأُمُورٍ ، وَعَرَّفَهُ أَسْرَارَ
الْبَاطِنِيَّةِ ، وَأَعْطَاهُ أَمْوَالًا ، فَبَثَّ لَهُ الدُّعَاةَ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُؤَرِّخُونَ ، وَكَثُرَ كَلَامُهُمْ فِي قِصَّةِ
عُبَيْدِ اللَّهِ الْقَدَّاحِ بْنِ مَيْمُونِ بْنِ دَيْصَانَ ; فَقَالُوا : إِنَّ
دَيْصَانَ هَذَا هُوَ صَاحِبُ " كِتَابِ الْمِيزَانِ " فِي الزَّنْدَقَةِ ، وَكَانَ يَتَوَلَّى
أَهْلَ الْبَيْتِ ، وَقَالَ : وَنَشَأَ
لِمَيْمُونِ بْنِ دَيْصَانَ ابْنُهُ
عَبْدُ اللَّهِ ، فَكَانَ يَقْدَحُ الْعَيْنَ ، وَتَعْلَمُ مِنْ أَبِيهِ حِيَلًا وَمَكْرًا .
سَارَ
عَبْدُ اللَّهِ فِي نُوَاحِي
أَصْبَهَانَ ، وَإِلَى
الْبَصْرَةِ . ثُمَّ إِلَى
سَلَمِيَّةَ يَدْعُو إِلَى
أَهْلِ الْبَيْتِ ، ثُمَّ مَاتَ ، فَقَامَ ابْنُهُ
أَحْمَدُ بَعْدَهُ ، فَصَحِبَهُ
رُسْتُمُ بْنُ حَوْشَبٍ النَّجَّارُ الْكُوفِيُّ ، فَبَعَثَهُ
أَحْمَدُ إِلَى
الْيَمَنِ يَدْعُو لَهُ ، فَأَجَابُوهُ ، فَسَارَ إِلَيْهِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ مِنْ
صَنْعَاءَ -وَكَانَ
بِعَدَنَ - فَصَحِبَهُ ، وَصَارَ مِنْ كُبَرَاءِ أَصْحَابِهِ .
وَكَانَ
لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ هَذَا دَهَاءٌ وَعُلُومٌ وَذَكَاءٌ ، وَبَعَثَ
ابْنُ حَوْشَبٍ دُعَاةً إِلَى
الْمَغْرِبِ ، فَأَجَابَتْهُ
كُتَامَةُ ، فَنَفَّذَ
ابْنُ حَوْشَبٍ إِلَيْهِمْ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ ذَهَبٌ كَثِيرٌ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ ، فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ مَا صَارَ .
فَهَذَا قَوْلٌ ، وَنَرْجِعُ إِلَى قَوْلٍ آخَرَ هُوَ أَشْهَرُ ، فَسَيَّرَ -أَعْنِي وَالِدَ
الْمَهْدِيِّ -
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيَّ ، فَأَقَامَ
بِالْيَمَنِ أَعْوَامًا ، ثُمَّ حَجَّ ، فَصَادَفَ طَائِفَةً مِنْ
كُتَامَةَ حُجَّاجًا ، فَنَفَقَ عَلَيْهِمْ ، وَأَخَذُوهُ إِلَى
الْمَغْرِبِ فَأَضَلَّهُمْ وَكَانَ
[ ص: 149 ] يَقُولُ : إِنَّ لِظَوَاهِرِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ بَوَاطِنَ هِيَ كَاللُّبِّ ، وَالظَّاهِرُ كَالْقِشْرِ ، وَقَالَ : لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ ، فَمَا وَقَفَ عَلَى عِلْمِ الْبَاطِنِ فَقَدِ ارْتَقَى عَنْ رُتْبَةِ التَّكَالِيفِ .
وَكَانَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ذَا مَكْرٍ وَدَهَاءٍ وَحِيَلٍ وَرَبْطٍ ، وَلَهُ يَدٌ فِي الْعِلْمِ ، فَاشْتَهَرَ
بِالْقَيْرَوَانِ ، وَبَايَعَتْهُ
الْبَرْبَرُ ، وَتَأَلَّهُوهُ لِزُهْدِهِ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُتَوَلِّي
إِفْرِيقِيَّةَ يُخَوِّفُهُ وَيُهَدِّدُهُ ، فَمَا أَلَوَى عَلَيْهِ ، فَلَمَّا هَمَّ بِقَبْضِهِ اسْتَنْهَضَ الَّذِينَ تَبِعُوهُ ، وَحَارَبَ فَانْتَصَرَ مَرَّاتٍ ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ ، فَصَنَعَ صَاحِبُ
إِفْرِيقِيَّةَ صُنْعَ
مُحَمَّدِ بْنِ يُعَفِّرَ صَاحِبِ
الْيَمَنِ ، فَرَفَضَ الْإِمَارَةَ ، وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ ، وَلَبِسَ الصُّوفَ ، وَرَدَّ الْمَظَالِمَ ، وَمَضَى غَازِيًا نَحْوَ
الرُّومِ ، فَتَمَلَّكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ ، وَوَصَلَ الْأَبُ إِلَى
صِقِلِّيَّةَ ، وَمِنْهَا إِلَى
طَبَرْمِينَ فَافْتَتَحَهَا ، ثُمَّ مَاتَ مَبْطُونًا فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ ، كَانَتْ دُوَلَتُهُ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَدُفِنَ
بِصِقِلِّيَّةَ .
وَشُهِرَ الشِّيعِيُّ بِالْمُشْرِقِ ، وَكَثُرَتْ جُيُوشُهُ ، وَزَادَ الطَّلَبُ
لِعُبَيْدِ اللَّهِ ، فَسَارَ بِابْنِهِ وَهُوَ صَبِيٌّ وَمَعَهُمَا
أَبُو الْعَبَّاسِ أَخُو الدَّاعِي الشِّيعِيِّ ، فَتَحَيَّلُوا حَتَّى وَصَلُوا إِلَى
طَرَابُلُسَ الْمَغْرِبِ ، وَتَقَدَّمَهُمَا
أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى
الْقَيْرَوَانِ ، وَبَالَغَ
زِيَادَةُ اللَّهِ الْأَغْلَبِيُّ فِي تَطَلُّبِهِمَا ، فَوَقَعَ
بِأَبِي الْعَبَّاسِ فَقَرَّرَهُ ، فَأَصَرَّ عَلَى الْإِنْكَارِ ، فَحَبَسَهُ
بِرَقَّادَةَ .
وَعَرَفَ بِذَلِكَ
الْمَهْدِيُّ ، فَعَدَلَ إِلَى
سِجِلْمَاسَةَ ، وَأَقَامَ بِهَا يَتَّجِرُ ، فَعَلِمَ بِهِ
زِيَادَةُ اللَّهِ ، وَقَبَضَ مُتَوَلِّي الْبَلَدِ عَلَى
الْمَهْدِيِّ وَابْنِهِ ، ثُمَّ
[ ص: 150 ] الْتَقَى
زِيَادَةُ اللَّهِ وَالشِّيعِيُّ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَيَنْتَصِرُ الشِّيعِيُّ ، وَانْهَزَمَ مِنَ السِّجْنِ
أَبُو الْعَبَّاسِ ، ثُمَّ أُمْسِكَ .
وَأَمَّا
زِيَادَةُ اللَّهِ فَأَيِسَ مِنَ
الْمَغْرِبِ ، وَلَحِقَ
بِمِصْرَ ، وَأَقْبَلَ الشِّيعِيُّ وَأَخُوهُ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ ، فَقَصَدَا
سِجِلْمَاسَةَ ، فَبَرَزَ لَهُمَا مُتَوَلِّيهَا
الْيَسَعُ ، فَانْهَزَمَ جَيْشُهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ، وَأَخْرَجَ
الشِّيعِيَّ عُبَيْدَ اللَّهِ وَابْنَهُ ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ ، وَتَمَهَّدَتْ لَهُ
الْمَغْرِبُ .
ثُمَّ سَارَ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا بَرًّا وَبَحْرًا يَقْصِدُ
مِصْرَ ، فَنَزَلَ
لَبْدَةَ ، وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَرَاحِلَ مِنَ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ، فَفَجَّرَ
تِكَّيْنُ الْخَاصَّةِ عَلَيْهِمُ النِّيلَ ، فَحَالَ الْمَاءُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
مِصْرَ .
قَالَ
الْمُسَبِّحِيُّ فَكَانَتْ وَقْعَةُ
بَرْقَةَ ، فَسَلَّمَهَا
الْمَنْصُورُ وَانْهَزَمَ إِلَى
مِصْرَ .
وَفِيهَا سَارَ
حُبَاسَةُ الْكُتَامِيُّ فِي عَسْكَرٍ عَظِيمٍ طَلِيعَةً بَيْنَ يَدَيِ
ابْنِ الْمَهْدِيِّ ، فَوَصَلَ إِلَى
الْجِيزَةِ ، فَتَاهَ عَلَى الْمَخَاضَةِ ، وَبَرَزَ إِلَيْهِ عَسْكَرٌ وَمَنَعُوهُ ، وَكَانَ النِّيلُ زَائِدًا ، فَرَجَعَ جَيْشُ
الْمَهْدِيِّ وَعَاثُوا وَأَفْسَدُوا .
[ ص: 151 ] ثُمَّ قَصَدُوا
مِصْرَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ مَعَ
الْقَائِمِ ، فَأَخَذَ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ ، وَكَثِيرًا مِنَ
الصَّعِيدِ ، ثُمَّ رَجَعَ ، ثُمَّ أَقْبَلُوا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَمَلَكُوا
الْجِيزَةَ .
وَفِي نَسَبِ
الْمَهْدِيِّ أَقْوَالٌ حَاصِلُهَا أَنَّهُ لَيْسَ بِهَاشِمِيٍّ وَلَا فَاطِمِيٍّ .
وَكَانَ مَوْتُهُ فِي نِصْفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ ، وَلَهُ اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً ، وَكَانَتْ دَوْلَتُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا .
وَقَامَ بَعْدَهُ ابْنُهُ
الْقَائِمُ .
نَقْلَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي تَرْجَمَةِ
أَبِي مُحَمَّدٍ الْكَسْتَرَاتِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ أَكْرَهَهُ
بَنُو عُبَيْدٍ عَلَى الدُّخُولِ فِي دَعْوَتِهِمْ أَوْ يَقْتُلُ ؟ فَقَالَ : يَخْتَارُ الْقَتْلَ وَلَا يُعْذَرُ ، وَيَجِبُ الْفِرَارُ ; لِأَنَّ الْمُقَامَ فِي مَوْضِعٍ يُطْلَبُ مِنْ أَهْلِهِ تَعْطِيلُ الشَّرَائِعِ لَا يَجُوزُ .
قَالَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ
بِالْقَيْرَوَانِ أَنَّ حَالَ
بَنِي عُبَيْدٍ حَالُ الْمُرْتَدِّينَ وَالزَّنَادِقَةِ .
وَقِيلَ : إِنَّ
عُبَيْدَ اللَّهِ تَمَلَّكَ
الْمَغْرِبَ ، فَلَمْ يَكُنْ يُفْصِحُ بِهَذَا الْمَذْهَبِ إِلَّا لِلْخَوَاصِّ ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ أَكْثَرَ الْقَتْلَ جَدًّا ، وَسَبَى الْحَرِيمَ ، وَطَمِعَ فِي أَخْذِ
مِصْرَ .