الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          1373 حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو بكر الحنفي أخبرنا الضحاك بن عثمان حدثني سالم أبو النضر عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال عرفها سنة فإن اعترفت فأدها وإلا فاعرف وعاءها وعفاصها ووكاءها وعددها ثم كلها فإذا جاء صاحبها فأدها قال وفي الباب عن أبي بن كعب وعبد الله بن عمرو والجارود بن المعلى وعياض بن حمار وجرير بن عبد الله قال أبو عيسى حديث زيد بن خالد حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه قال أحمد بن حنبل أصح شيء في هذا الباب هذا الحديث وقد روي عنه من غير وجه والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ورخصوا في اللقطة إذا عرفها سنة فلم يجد من يعرفها أن ينتفع بها وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يعرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها وهو قول سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك وهو قول أهل الكوفة لم يروا لصاحب اللقطة أن ينتفع بها إذا كان غنيا وقال الشافعي ينتفع بها وإن كان غنيا لأن أبي بن كعب أصاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرة فيها مائة دينار فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها ثم ينتفع بها وكان أبي كثير المال من مياسير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها فلم يجد من يعرفها فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلها فلو كانت اللقطة لم تحل إلا لمن تحل له الصدقة لم تحل لعلي بن أبي طالب لأن علي بن أبي طالب أصاب دينارا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فعرفه فلم يجد من يعرفه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأكله وكان لا يحل له الصدقة وقد رخص بعض أهل العلم إذا كانت اللقطة يسيرة أن ينتفع بها ولا يعرفها وقال بعضهم إذا كان دون دينار يعرفها قدر جمعة وهو قول إسحق بن إبراهيم

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( رخصوا في اللقطة إذا عرفها سنة فلم يجد من يعرفها أن ينتفع بها ، وهو قول الشافعي ، وأحمد وإسحاق ) واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " وإلا فاستمتع بها " وما في معناه ، قال الحافظ في الفتح : قوله وإلا فاستنفقها ، استدل به على أن الملتقط يتصرف فيها سواء كان غنيا أم فقيرا ، وعن أبي حنيفة إن كان غنيا تصدق بها ، وإن صاحبها تخير بين إمضاء الصدقة ، أو تغريمه ، قال صاحب الهداية : إلا إن كان يأذن الإمام فيجوز للغني كما في قصة أبي بن كعب .

                                                                                                          وبهذا قال عمر وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وغيرهم من الصحابة والتابعين ( وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وغيرهم : يعرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها ، وهو قول سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك ، وهو قول أهل الكوفة ) استدل لهم بحديث عياض بن حمار ، وفيه : وإن لم يجئ صاحبها فهو مال الله يؤتيه من يشاء . رواه أحمد ، وابن ماجه ، قال الشوكاني : استدل به من قال إن الملتقط يملك اللقطة بعد أن [ ص: 517 ] يعرف بها حولا ، وهو أبو حنيفة ، لكن بشرط أن يكون فقيرا وبه قالت الهادوية ، واستدلوا على اشتراط الفقر بقوله في هذا الحديث : " فهو مال الله " . قالوا ، وما يضاف إلى الله إنما يتملكه من يستحق الصدقة ، وذهب الجمهور إلى أنه يجوز له أن يصرفها في نفسه بعد التعريف سواء كان غنيا ، أو فقيرا لإطلاق الأدلة الشاملة للغني والفقير كقوله : " فاستمتع بها " وفي لفظ : فهي كسبيل مالك ، وفي لفظ : فاستنفقها ، وفي لفظ : فهي لك ، وأجابوا عن دعوى أن الإضافة ( يعني : إضافة المال إلى الله في قوله : فهو مال الله ) فدل على الصرف إلى الفقير بأن ذلك لا دليل عليه : فإن الأشياء كلها تضاف إلى الله ، قال الله تعالى وآتوهم من مال الله الذي آتاكم . انتهى . ( وقال الشافعي : ينتفع بها ، وإن كان غنيا ) وهو قول الجمهور كما عرفت ( لأن أبي بن كعب أصاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرة فيها مائة دينار فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها ، ثم ينتفع بها ، وكان أبي كثير المال من مياسير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلخ ) أخرج حديث أبي بن كعب هذا الترمذي في هذا الباب ، وأخرجه أيضا أحمد ، ومسلم ، ومياسير جمع موسر قال في القاموس : اليسر بالضم وبضمتين واليسار والمسارة والميسرة مثلثة السين السهولة والغنى وأيسر إيسارا ويسرى صار ذا غنى فهو موسر جمعه مياسير . انتهى ، وقول الشافعي : وكان أبي كثير المال قد اعترض عليه بحديث أبي طلحة الذي في الصحيحين حيث استشار النبي صلى الله عليه وسلم في صدقته فقال اجعلها في فقراء أهلك . فجعلهاأبو طلحة في أبي بن كعب وحسان ، وغيرهما ، والجواب عنه أن ذلك في أول الحال ، وقول الشافعي بعد ذلك حين فتحت الفتوح ، كذا في التلخيص ( فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلها ) وهذا دليل على أنه يجوز للغني أن ينتفع باللقطة ، وأجاب من قال بعدم جوازه بأنه إنما جاز لأبي بن كعب الانتفاع بها ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد كان أذن له بالانتفاع بها وإذا أذن الإمام يجوز للغني الانتفاع باللقطة .

                                                                                                          قلت : هذا الجواب إنما يتمشى إذا ثبت عدم جواز الانتفاع باللقطة للغني بدليل صحيح ( فلو كانت اللقطة لم تحل إلا لمن تحل له الصدقة لم تحل لعلي بن أبي طالب ؛ لأن علي بن أبي طالب أصاب دينارا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه فلم يجد من يعرفه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكله ) يأتي تخريج حديث علي هذا عن قريب . ( وكان [ ص: 518 ] علي لا تحل له الصدقة ) وهذا أيضا دليل على جواز الانتفاع باللقطة للغني . ( وقد رخص بعض أهل العلم إذا كانت اللقطة يسيرة أن ينتفع بها ، ولا يعرفها إلخ ) أخرج أحمد ، وأبو داود عن جابر قال : رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به . " وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها أخرجه الشيخان ، قال صاحب المنتقى فيه إباحة المحقرات في الحال . انتهى ، قال الشوكاني : حديث جابر في إسناده المغيرة بن زياد ، قال المنذري : تكلم فيه غير واحد ، وفي التقريب : صدوق له أوهام ، وفي الخلاصة : وثقه وكيع ، وابن معين ، وابن عدي ، وغيرهم ، وقال أبو حاتم : شيخ لا يحتج به ، وقوله " وأشباهه " يعني : كل شيء يسير ، وقوله " ينتفع به " فيه دليل على جواز الانتفاع بما يوجد في الطرقات من المحقرات ، ولا يحتاج إلى تعريف ، وقيل : إنه يجب التعريف بها ثلاثة أيام . لما أخرجه أحمد والطبراني ، والبيهقي والجوزجاني ، واللفظ لأحمد من حديث يعلى بن مرة مرفوعا من التقط لقطة يسيرة حبلا ، أو درهما ، أو شبه ذلك فليعرفها ثلاثة أيام ، فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام زاد الطبراني : فإن جاء صاحبها وإلا فليتصدق بها ، وفي إسناده عمر بن عبد الله بن يعلى ، وقد صرح جماعة بضعفه ، ولكنه قد أخرج له ابن خزيمة متابعة ، وروى عن جماعة ، وزعم ابن حزم أنه مجهول ، وزعم هو ، وابن القطان أن يعلى وحكيمة التي روت هذا الحديث عن يعلى مجهولان ، قال الحافظ : وهو عجب منهما ؛ لأن يعلى صحابي معروف الصحبة ، قال ابن رسلان : ينبغي أن يكون هذا الحديث معمولا به ؛ لأن رجال إسناده ثقات ، وليس فيه معارضة للأحاديث الصحيحة بتعريف سنة ؛ لأن التعريف سنة هو الأصل المحكوم به عزيمة ، وتعريف الثلاث رخصة تيسيرا للملتقط ؛ لأن الملتقط اليسير يشق عليه التعريف سنة مشقة عظيمة بحيث يؤدي إلى أن أحدا لا يلتقط اليسير ، والرخصة لا تعارض العزيمة ، بل لا تكون إلا مع بقاء حكم الأصل كما هو مقرر في الأصول ، ويؤيد تعريف الثلاث ما رواهعبد الرزاق عن أبي سعيد أن عليا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وجده في السوق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عرفه ثلاثا " . ففعل فلم يجد أحدا يعرفه فقال : " كله " . انتهى وينبغي أيضا أن يقيد مطلق الانتفاع المذكور في حديث الباب بالتعريف بالثلاث المذكورة فلا يجوز للملتقط أن ينتفع بالحقير إلا بعد التعريف به ثلاثا حملا [ ص: 519 ] للمطلق على المقيد وهذا إذا لم يكن ذلك الشيء الحقير مأكولا ، فإن كان مأكولا جاز أكله ولم يجب التعريف به أصلا كالتمرة ونحوها لحديث أنس المذكور ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أنه لم يمنعه من أكل التمرة إلا خشية أن تكون من الصدقة ، ولولا ذلك لأكلها ، وقد روى ابن أبي شيبة عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها وجدت تمرة فأكلتها ، وقالت : لا يحب الله الفساد ، قال في الفتح يعني : أنها لو تركتها فلم تؤخذ فتؤكل لفسدت ، قال : وجواز الأكل هو المجزوم به عند الأكثر . انتهى ، ويمكن أن يقال : إنه يقيد حديث التمرة بحديث التعريف ثلاثا كما قيد به حديث الانتفاع ، ولكنها لم تجر للمسلمين عادة بمثل ذلك ، وأيضا الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم " لأكلتها " أي : في الحال .

                                                                                                          ويبعد كل البعد أن يريد صلى الله عليه وسلم لأكلتها بعد التعريف بها ثلاثا ، وقد اختلف أهل العلم في مقدار التعريف بالحقير فحكى في البحر عن زيد بن علي والناصر والقاسمية ، والشافعي أنه يعرف به سنة كالكثير ، وحكى عن المؤيد بالله والإمام يحيى وأصحاب أبي حنيفة أنه يعرف به ثلاثة أيام .

                                                                                                          واحتج الأولون بقوله صلى الله عليه وسلم : " عرفها سنة " قالوا : ولم يفصل ، واحتج الآخرون بحديث يعلى بن مرة وحديث علي وجعلوهما مخصصين لعموم حديث التعريف سنة ، وهو الصواب لما سلف ، قال الإمام المهدي : قلت : الأقوى تخصيصه بما مر للحرج . انتهى ، يعني : تخصيص حديث السنة بحديث التعريف ثلاثا . انتهى كلام الشوكاني . قوله : ( عن بسر ) بضم الموحدة وسكون السين المهملة ( بن سعيد ) المدني العابد مولى ابن الحضرمي ثقة جليل من الثانية ( فإن اعترفت ) بصيغة المجهول أي : اللقطة ( فأدها ) أي : أد إلى ربها المعترف ( ثم كلها ) أي : بعد التعريف إلى سنة ، وفيه أنه يجوز للملتقط أن يأكل اللقطة ويتصرف فيها ، وإن كان غنيا لإطلاق الحديث ، ولا يجب عليه أن يتصدقها . قوله : ( هذا حديث حسن صحيح إلخ ) وأخرجه الشيخان ( والعمل على هذا عند بعض أهل العلم إلخ ) قد تقدمت هذه العبارة بعينها فهي مكررة ، وليس في تكرارها فائدة .




                                                                                                          الخدمات العلمية