الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          1252 حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر حدثنا قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها صاعا من طعام لا سمراء قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا الحديث عند أصحابنا منهم الشافعي وأحمد وإسحق ومعنى قوله لا سمراء يعني لا بر

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( فهو بالخيار ثلاثة أيام ) فيه دليل على امتداد الخيار هذا المقدار ، فتقيد بهذه الرواية الروايات القاضية بأن الخيار بعد الحلب على الفور كما في قوله : بعد أن يحلبها ( فإن ردها رد معها صاعا من طعام لا سمراء ) قال الحافظ : تحمل الرواية التي فيها الطعام على التمر ، وقد روى الطحاوي من طريق أيوب عن ابن سيرين أن المراد بالسمراء : الحنطة الشامية ، وروى ابن أبي شيبة وأبو عوانة من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين : لا سمراء يعني : الحنطة ، وروى ابن المنذر من طريق ابن عون عن ابن سيرين أنه سمع أبا [ ص: 382 ] هريرة يقول : لا سمراء تمر ليس ببر . فهذه الروايات تبين أن المراد بالطعام التمر ، ولما كان المتبادر إلى الذهن أن المراد بالطعام القمح نفاه بقوله لا سمراء . انتهى .

                                                                                                          قوله : ( معنى لا سمراء لا بر ) بضم الموحدة وتشديد الراء ، وهي الحنطة قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه البخاري ، ومسلم قوله : ( والعمل على هذا الحديث عند أصحابنا منهم الشافعي ، وأحمد وإسحاق ) قال الحافظ في الفتح قد أخذ بظاهر هذا الحديث يعني : حديث أبي هريرة المذكور جمهور أهل العلم ، وأفتى به ابن مسعود وأبو هريرة ، ولا مخالف لهم من الصحابة ، وقال به من التابعين ومن بعدهم من لا يحصى عدده ، ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلا ، أو كثيرا ، ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا ، وخالف في أصل المسألة أكثر الحنفية ، وفي فروعها أكثرون ، أما الحنفية فقالوا لا يرد بعيب التصرية ، ولا يجب رد صاع من التمر ، وخالفهم زفر فقال بقول الجمهور إلا أنه قال : يتخير بين صاع تمر ، أو نصف صاع بر ، وكذا قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف في رواية إلا أنهما قالا لا يتعين صاع التمر ، بل قيمته واعتذر الحنفية عن الأخذ بحديث المصراة بأعذار شتى ؛ فمنهم من طعن في الحديث بكونه من رواية أبي هريرة ولم يكن كابن مسعود ، وغيره من فقهاء الصحابة فلا يؤخذ بما رواه مخالفا للقياس الجلي ، وهو كلام آذى قائله به نفسه ، وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه ، وقد ترك أبو حنيفة القياس الجلي لرواية أبي هريرة وأمثاله كما في الوضوء بنبيذ التمر ، ومن القهقهة في الصلاة وغير ذلك ، وأظن أن لهذه النكتة أورد البخاري حديث ابن مسعود عقب حديث أبي هريرة إشارة منه إلى أن ابن مسعود قد أفتى بوفق حديث أبي هريرة فلولا أن خبر أبي هريرة في ذلك ثابت لما خالف ابن مسعود القياس الجلي في ذلك ، وقد اختص أبو هريرة بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له ، ثم مع ذلك لم ينفرد أبو هريرة برواية هذا الأصل فقد أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنه ، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عنه وأبو يعلى من حديث أنس ، وأخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث عمرو بن عوف المزني ، وأخرجه أحمد من رواية رجل من الصحابة لم يسم ، وقال ابن عبد البر : هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل واعتل من لم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها ، ومنهم من قال : هو حديث مضطرب لذكر التمر فيه تارة والقمح أخرى واللبن أخرى واعتباره بالصاع تارة وبالمثل ، أو المثلين تارة وبالإناء أخرى ، والجواب أن الطرق الصحيحة لا اختلاف فيها ، والضعيف لا يعل به الصحيح ومنهم من قال : وهو معارض لعموم القرآن كقوله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وأجيب بأنه من ضمان المتلفات لا العقوبات ، والمتلفات تضمن بالمثل وبغير المثل ، ومنهم من قال : هو منسوخ وتعقب بأن [ ص: 383 ] النسخ لا يثبت بالاحتمال ، ولا دلالة على النسخ مع مدعيه ، كذا في فتح الباري ، وقد بسط الحافظ فيه الكلام في هذا المقام بسطا حسنا وأجاد ، وقال الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين : المثال العشرون رد المحكم الصحيح الصريح في مسألة المصراة بالمتشابه من القياس وزعمهم أن هذا يخالف الأصول فلا يقبل فيقال : الأصول كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أمته : والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنة ، فالحديث الصحيح أصل بنفسه فكيف يقال الأصل يخالف نفسه ؟ هذا من أبطل الباطل ، والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما : كلام الله وكلام رسوله ، وما عداهما فمردود إليهما ، فالسنة أصل قائم بنفسه والقياس فرع فكيف يرد الأصل بالفرع ؟ وقد تقدم بيان موافقة حديث المصراة للقياس وإبطال قول من زعم أنه خلاف القياس ويا لله العجب كيف وافق الوضوء بالنبيذ المشتد للأصول حتى قبل ؟ وخالف خبر المصراة للأصول حتى رد ؟ . انتهى . قلت : قد أطال الحافظ ابن القيم في هذا الكتاب في إبطال قول من زعم أنه خلاف القياس فعليك أن ترجع إليه

                                                                                                          تنبيه : قال صاحب العرف الشذي . أما ما ذكر صاحب المنار ، وغيره من أن حديث المصراة يرويه أبو هريرة ، وهو غير فقيه ، ورواية الذي ليس بفقيه غير معتبرة إذا كانت خلاف القياس ، والقياس يقتضي بالفرق بين اللبن القليل والكثير ولبن الناقة ، أو الشاة ، أو البقرة وغيرها من الأقيسة ، فأقول إن مثل هذا قابل الإسقاط من الكتب فإنه لا يقول به عامل وأيضا هذه الضابطة لم ترد عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ، ولكنها منسوبة إلى عيسى بن أبان . انتهى كلام صاحب العرف الشذي بلفظه . قلت : وكذلك كثير من الضوابط والمسائل المذكورة في كتب الحنفية المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة قابلة للإسقاط من الكتب الحنفية فإنها لم ترد عنه رحمه الله ، بل هي منسوبة إليه بلا دليل ، وشأنه أعلى وأجل أن يقول بها

                                                                                                          تنبيه آخر : قال صاحب العرف الشذي : أول من أجاب الطحاوي فعارض الحديث وأتى بحديث ( الخراج بالضمان ) وسنده قوي أقول إن هذا الجواب ليس بذاك القوي . انتهى كلام صاحب العرف الشذي بلفظه ، ثم بسط في تضعيف جواب الطحاوي هذا وتوهينه ، قلت : لا شك في أن جواب الطحاوي هذا ضعيف ، وواه ، وقد زعم الطحاوي رحمه الله أن حديث الخراج بالضمان ناسخ لحديث المصراة وهذا زعم فاسد ، قال الحافظ في الفتح : وقيل إن ناسخه حديث الخراج بالضمان ، وهو حديث أخرجه أصحاب السنن عن عائشة ، ووجهة الدلالة منه أن اللبن فضلة من فضلات الشاة ، ولو هلكت لكان من ضمان المشتري فكذلك فضلاتها تكون له فكيف يغرم بدلها للبائع حكاه الطحاوي أيضا ، وتعقب بأن حديث المصراة أصلح منه باتفاق فكيف يقدم المرجوح على الراجح ؟ ودعوى كونه بعده لا دليل عليها وعلى التنزل فالمشتري لم يؤمر بغرامة ما حدث في ملكه ، بل بغرامة اللبن الذي ورد عليه العقد ولم يدخل في العقد فليس بين الحديثين على هذا تعارض . انتهى كلام الحافظ ، وقال قبل [ ص: 384 ] هذا ما لفظه : ومنهم من قال هو منسوخ وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال ، ولا دلالة على النسخ مع مدعيه ؛ لأنهم اختلفوا في الناسخ ، ثم ذكر الحافظ الأحاديث التي زعموا أنها ناسخة وأجاب عنها جوابا شافيا إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى فتح الباري .




                                                                                                          الخدمات العلمية