أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا أحمد بن علي بن [ثابت] الحافظ قال:
حدثني علي بن أيوب قال: خرج من المتنبي بغداد إلى فارس ، فمدح عضد الدولة وأقام عنده مديدة ، ثم رجع من شيراز يريد بغداد ، فقتل بالطريق بالقرب من النعمانية في شهر رمضان ، وقيل: في شعبان [من] سنة أربع وخمسين وثلاثمائة ، وفي سبب قتله ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان معه مال كثير فقتلته العرب لأخذ ماله ، فذكر بعض العلماء أنه وصل إليه من عضد الدولة أكثر من مائتي ألف درهم ، والقصيدة قصيدته التي يقول فيها:
ولو أني استطعت غضضت طرفي فلم أبصر به حتى أراكا
وفي آخرها:وأنى شئت يا طرقي فكوني أذاة أو نجاة أو هلاكا
وذكر مظفر بن علي الكاتب قال: اجتمعت برجل من بني ضبة ، يكنى: أبا رشيد ، فذكر أنه حضر قتل وأنه كان صبيا حين راهق حينئذ ، وكان المتنبي ، قد وفد على المتنبي عضد الدولة وهو بشيراز ، ثم صحبه إلى الأهواز فأكرمه ووصله بثلاثة آلاف دينار ، وثلاث كساء ، في كل كسوة سبع قطع ، وثلاثة أفراس بسروج محلاة ، ثم دس عليه من سأله: أين هذا [العطاء] من عطاء سيف الدولة بن حمدان ، فقال المتنبي:
هذا أجزل ، إلا أنه عطاء متكلف ، وكان سيف الدولة يعطي طبعا ، فاغتاظ عضد الدولة لما نقل إليه هذا ، وأذن لقوم من بني ضبة في قتله إذا انصرف ، قال: فمضيت مع أبي ، وكنا في ستين راكبا ، فكمنا في واد فمر في الليل ، ولم يعلم به ، فلما أصبحنا تقفينا أثره فلحقناه ، وقد نزل تحت شجرة كمثرى وعندها عين ، وبين يديه سفرة طعام ، فلما رآنا قام ونادى: هلموا وجوه العرب ، فلم يجبه أحد فأحس بالداهية ، فركب ومعه ولده وخمسة عشر غلاما ، له ، وجمعوا الرجال والجمال والبغال ، فلو ثبت مع الرجالة لم يقدر عليه ، ولكنه برز إلينا يطاردنا . قال: فقتل ولده ، وأخذ غلمانه ، وانهزم شيئا يسيرا . فقال له غلام له: أين قولك . [ ص: 167 ]
الخيل والليل والبيداء تعرفني والحرب والضرب والقرطاس والقلم
الناس في الغنائم وأنت مع بطنك؟ اكفأ ما في الصحاف ، وأعطنيها ، فكفأت ما فيها ودفعتها إليه ، وكانت فضة ، ورميت بالدجاج والفراخ في حجرتي .
والثالث: أن هجم على المتنبي ضبة الأسدي فقال:
ما أنصف القوم ضبه . وأمه الطرطبه فبلغته فأقام له في الطريق من قتله ، وقتل ولده ، وأخذ ما معه ، وكان ضبة يقطع الطريق . ذكره هلال بن المحسن الصابي .
وأشعاره فائقة الحسن ، رائعة الصناعة ، وقد ذكرت من منتخبها أبياتا كعادتي عند ذكر كل شاعر . [أذكره ، فمن ذلك قوله] .
حاشى الرقيب فخانته ضمائره وغيض الدمع فانهلت بوادره
وكاتم الحب يوم البين منهتك وصاحب الدمع لا تخفى سرائره
يا من تحكم في نفسي فعذبني ومن فؤادي على قتلي يظافره
تمضي الركائب والأبصار شاخصة منها إلى الملك الميمون طائره
حلو خلائقه شوس حقائقه يحصى الحصى قبل أن يحصى مآثره
تضيق عن جيشه الدنيا ولو رحبت كصدره لم تضق فيها عساكره
لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت أنت وهن منك أواهل
[ ص: 168 ] يعلمن ذاك وما علمت وإنما أولاكما يبكى عليه العاقل
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
أثني عليك ولو تشاء لقلت لي قصرت فالإمساك عني نائل
لا تجسر الفصحاء تنشد ها هنا بيتا ولكني الهزبر الباسل
ما نال أهل الجاهلية كلهم شعري ولا سمعت بسحري بابل
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني فاضل
قد علم البين منا البين أجفانا تدمى وألف في ذا القلب أحزانا
قد كنت أشفق من دمعي على بصري فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
تهدي البوارق أخلاف المياه لكم وللمحب من التذكار نيرانا
إذا قدمت على الأهوال شيعني قلب إذا شئت أن يسلاكم خانا
لا أستزيدك فيما فيك من كرم أنا الذي نام إن نبهت يقظانا
كل يوم لك احتمال جديد ومسير للمجد فيه مقام
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل دعا فلباه قبل الركب والإبل
ظللت بين أصيحابي أكفكفه فظل يسفح بين العذر والعذل
أشكو النوى ولهم من مقلتي أرق كذاك أشكو وما أشكو سوى الكلل
وما صبابة مشتاق على أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل
الهجر أقتل لي مما أراقبه أنا الغريق فما خوفي من البلل
قد ذقت شدة أيام ولذتها فما حصلت على صاب ولا عسل
[ ص: 169 ] وقد أراني الشباب الروح في بدني وقد أراني المشيب الروح في بدلي
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي وللحب ما لم يبق مني وما بقي
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ولكن من يبصر جفونك يعشق
وبين الرضى والسخط والقرب والنوى مجال لدمع المقلة المترقرق
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي
وما كمد الحساد مما قصدته ولكنه من يزحم البحر يغرق
من الجآذر في زي الأعاريب حمر الحلى والمطايا والجلابيب
إن كنت تسأل شكا في معارفها فمن بلاك بتسهيد وتعذيب
كم زورة لك في الأعراب خافية أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قد حالفوا الوحش في سكنى مراتعها وخالفوها بتقويض وتطنيب
جيرانها وهم شر الجوار لها وصحبها وهم شر الأصاحيب
فؤاد كل محب في بيوتهم ومال كل أخيذ المال مسلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة أوراكهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة تركت لون مشيبي غير مخضوب
كأن كل سؤال في مسامعه قميص يوسف في أجفان يعقوب
أنت الحبيب ولكني أعوذ به من أن أكون محبا غير محبوب