ذكر مدين شعيب ما جرى له بعد انفصاله عن
قال السدي: فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله [28: 29] ضل الطريق فرأى نارا -وكان شتاء- فـ قال لأهله امكثوا [28: 29] .
أخبرنا محمد بن أبي منصور الحافظ ، أخبرنا جعفر بن أحمد السراج ، أخبرنا الحسن بن علي التميمي ، أخبرنا أحمد بن جعفر ، أخبرنا قال: حدثني أبي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه ، حدثنا عبد الصمد بن معقل ، قال: سمعت قال: لما رأى وهب بن منبه موسى النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبا ، فإذا هو بنار عظيمة تفور من فروع شجرة خضراء شديدة الخضرة ، لا تزداد النار فيما يرى إلا عظما وتضرما ، ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسنا .
فوقف ينظر لا يدري على ما يضع أمرها ، إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحترق أوقد إليها موقد نالها فاحترقت ، وإنه إنما تمنع النار شدة خضرتها وكثرة مائها وكثافة ورقها وعظم جزعها . فوضع أمرها على هذا ، فوقف يطمع أن يسقط منها شيء فيقتبسه .
فلما طال عليه ذلك أهوى إليها بضغث في يده وهو يريد أن يقتبس من لهبها ، فلما فعل ذلك موسى مالت نحوه كأنما تريده ، فاستأخر عنها وهاب ، ثم عاد فطاف بها فلم تزل تطمعه ويطمع فيها . ولم تكن بأوشك من خمودها ، فاشتد عند ذلك عجبه وفكر في أمرها ، وقال: هي نار ممتنعة لا يقتبس منها ، ولكنها تضرم في جوف شجرة ولا تحرقها ، ثم خمودها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين ، فلما رأى ذلك موسى ، قال: إن لهذه النار لشأنا . ثم وضع أمرها على أنها مأمورة أو مصنوعة ، لا [ ص: 338 ] يدري من أمرها ، ولا بما أمرت ، ولا من صنعها ، ولا لم صنعت ، فوقف متحيرا لا يدري أيرجع أم يقيم؟
فبينا هو على ذلك إذ رمى بطرفه نحو فرعها فإذا هو أشد ما كان خضرة ، وإذا الخضرة ساطعة في السماء ، ثم لم تزل الخضرة تنور وتصفر وتبيض حتى صارت نورا ساطعا عمودا ما بين السماء والأرض ، عليه مثل شعاع الشمس ، تكل دونه الأبصار ، كلما نظر إليه كاد يخطف بصره .
فعند ذلك اشتد خوفه وحزنه ، فرد يده على عينيه ، ولصق بالأرض ، وسمع الحنين والوجس ، إلا أنه يسمع حينئذ شيئا لم يسمع السامعون مثله عظما ، الحنين .
فلما بلغ موسى الكرب ، واشتد عليه الهول ، وكاد أن يخالط في عقله من شدة الخوف لما يسمع ويرى نودي من الشجرة ، فقيل: يا موسى ، فأجاب سريعا وما يدري من دعا ، وما كان سرعة إجابته إلا استئناسا بالإنس ، فقال: لبيك مرارا ، أسمع صوتك وأحس رحبك ولا أرى مكانك ، فأين أنت؟ قال: أنا فوقك ومعك وأمامك وأقرب إليك منك .
فلما سمع هذا موسى علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تعالى ، وأيقن به ، فقال: كذلك أنت يا إلهي ، أكلامك أسمع أم لرسولك؟ قال: أنا الذي أكلمك فادن مني ، فجمع موسى يديه في العصا ثم تحامل حتى استقل قائما ، فرعدت فرائصه حتى اختلفت واضطربت رجلاه ، وانقطع لسانه ، وانكسر قلبه ، ولم يبق منه عظم يحمل آخر ، فهو بمنزلة الميت إلا أن روح الحياة تجري فيه ، ثم زحف على ذلك وهو مرعوب حتى وقف قريبا من الشجرة التي نودي منها ، فقال له الرب تبارك وتعالى: وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي [20: 17 - 18] قال: وما تصنع بها ولا أحد أعلم بذلك منه ، قال موسى: أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى [20: 18] . لموسى عليه السلام في العصي مآرب . وكانت لها شعبتان ومحجن تحت الشعبتين . وكان
قال له الرب تبارك وتعالى: ألقها يا موسى [20: 19] . فظن موسى أنه يقول له: ارفضها ، فألقاها على وجه [الأرض لا على وجه] الرفض ، ثم حانت منه نظرة فإذا هي [ ص: 339 ] بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون ، يدب ليمس ، كأنه يبتغي شيئا يريد أخذه ، يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيقلبها ، ويطعن بالناب في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها ، عيناه توقدان نارا ، وقد عاد المحجن عرفا فيه شعر مثل النيازك ، وعادت الشعبتان فما مثل القليب الواسع ، وفيه أضراس وأنياب لها صريف .
فلما عاين ذلك موسى عليه السلام ولى مدبرا ، فذهب حتى أمعن [في البرية] ، ورأى أنه قد أعجز الحية ، ثم ذكر ربه عز وجل فوقف استحياء منه .
ثم نودي: يا موسى ، ارجع حيث كنت ، فرجع وهو شديد الخوف ، قال: خذها [20: 21] بيمينك ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى [20: 21] وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف ، فدخلها بخلال من عيدان ، فلما أمره بأخذها ثنى طرف المدرعة على يده ، فقال له ملك: أرأيت يا موسى لو أذن الله عز وجل لما تحاذر ، أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال: لا ، ولكني ضعيف ، ومن ضعف خلقت ، فكشف عن يده ثم وضعها في في الحية حتى سمع حس [الأضراس] والأنياب ، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها ، فإذا يده في الموضع الذي كان يضعها فيه إذا توكأ بين الشعبتين .
فاستقر وذهبت عنه الرعدة ، وجمع يديه في العصا ، وخضع برأسه وعنقه ، ثم قال: إني قد أتيتك اليوم مقاما لا ينبغي لبشر بعدك أن يقوم مقامك ، أدنيتك وقربتك حتى سمعت كلامي ، وكنت بأقرب الأمكنة مني ، فانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي ، فإن معك يدي وبصري ، وإني قد ألبستك جبة من سلطاني تستكمل بها القوة في أمري ، فأنت جند عظيم من جنودي ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي ، وأمن مكري ، وغرته الدنيا عني ، حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي ، وعبد [غيري] ، وزعم أنه لا يعرفني ، وإني أقسم بعزتي لولا العذر والحجة اللذان وضعت بيني وبين خلقي لبطشت بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار ، فإن أمرت السماء حصبته ، [ ص: 340 ] وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت [الجبال] دمرته ، وإن أمرت البحار غرقته ، ولكنه هان علي ، وسقط من عيني ، ووسعه حلمي ، واستغنيت بما عندي ، وحق لي أني أنا الغني لا غني غيري . فقال له الله عز وجل: ادن ، فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة ،
وذكره بآياتي وحذره نقمتي وبأسي ، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا يرعبك ما ألبسه من لباس الدنيا ، فإن ناصيته بيدي ليس يطرف ولا ينطق ولا يتنفس إلا بإذني . فبلغه رسالاتي ، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي ، وإخلاص اسمي ،
قل له: أجب ربك عز وجل فإنه واسع المغفرة ، فإنه قد أمهلك أربعمائة سنة ، وفي كلها أنت مبارز لمحاربته ، تشبه وتمثل وتصد عباده عن سبله ، وهو يمطر عليك السماء ، وينبت لك الأرض ، لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب . ولو شاء أن يعجل ذلك لك أو يسلبكه فعل ، ولكنه ذو أناة ، وحلم عظيم .
وجاهده بنفسك وأخيك ، وأنتما محتسبان بجهاده ، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة -ولا قليل مني- تغلب الفئة الكثيرة بإذني .
ولا تعجبنكما زينته ، ولا ما يتمتع به ، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما ، فإنها زهرة الحياة الدنيا ، وزينة المترفين ، وإني لو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت ، ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما ، وكذلك أفعل بأوليائي قديما ، فأخرت لهم في ذلك ، فإني لأذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة ، وإني لأجنبهم سلوتها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق عن مبارك الغرة .
وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ولم يطع الهوى .
واعلم أنه لم يتزين العباد بزينة هي أبلغ من الزهد في الدنيا ، فإنها زينة المتقين ، عليهم [ ص: 341 ] منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود [48: 29] .
أولئك أوليائي حقا حقا ، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك ، وذلل لهم قلبك ولسانك .
واعلم أنه من أهان لي وليا إذا خافه فقد بارزني بالمحاربة وما رآني ، وعرض نفسه [للهلكة] ودعاني إليها ، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي؟ أو يظن الذي يعاديني أن يعجزني؟ أم يظن الذي بارزني أن يسبقني أو يفوتني؟ فكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة ، لا أكل نصرتهم إلى غيري؟!
قال: فأقبل موسى صلى الله عليه وسلم إلى فرعون في مدينته ، قد جعل حولها الأسد في غيضة قد غرسها ، فالأسد فيها مع ساستها ، إذا آسدتها على أحد أكل . وللمدينة أربعة أبواب في الغيضة ، فأقبل موسى عليه السلام من الطريق الأعظم الذي يراه منه فرعون ، فلما رأته الأسد صاحت صياح الثعالب ، فأنكر ذلك الساسة ، وفرقوا من فرعون .
وأقبل موسى حتى انتهى إلى الباب إلى قبة فرعون فقرعه بعصاه ، وعليه جبة صوف وسراويل صوف ، فلما رآه البواب عجب من جرأته فتركه ولم يأذن له ، وقال: هل تدري من تضرب؟ إنما تضرب باب سيدك ، قال: أنت وأنا وفرعون عبيد لربي عز وجل ، فأنا آمره ، فأخبر البواب الذي يليه والبوابين حتى بلغ ذلك أدناهم ، ودونهم سبعون حاجبا ، كل حاجب منهم تحت يده من الجنود ما شاء الله عز وجل ، كأعظم أمير اليوم إمارة ، حتى خلص الخبر إلى فرعون ، فقال: أدخلوه علي [فأدخلوه] ، فلما أتاه قال له فرعون: أأعرفك ، قال: نعم ، قال: ألم نربك فينا وليدا [26: 18] فرد موسى عليه الذي ذكره الله عز وجل ، قال فرعون: خذوه ، فبادرهم موسى فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين [26: 32] فحملت على الناس فانهزموا منها ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، قتل بعضهم بعضا .
وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت ، فقال لموسى: اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر [ ص: 342 ] فيه ، فقال له موسى: لم أومر بذلك وأنا أمرت بمناجزتك ، وإن أنت لم تخرج إلي دخلت إليك .
فأوحى الله عز وجل إلى موسى: أن اجعل بينك وبينه أجلا ، واجعل ذلك إليه ، قال فرعون: أجعله إلى أربعين يوما ، ففعل . وكان فرعون لا يأتي الخلاء إلا في أربعين يوما مرة ، فاختلف ذلك اليوم أربعين مرة .
قال: وخرج موسى من المدينة ، فلما مر بالأسد بصبصت بأذنابها ، وسارت مع موسى تشيعه ولا تهيجه ولا أحد من بني إسرائيل .